عودة الجنوب العالمي.. محاولة لإعادة تشكيل النظام الدولي من جديد

عربي بوست
تم النشر: 2023/09/12 الساعة 12:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/09/12 الساعة 12:55 بتوقيت غرينتش
من "العالم الثالث" إلى "الجنوب العالمي" - shutterstock

نجحت الحرب الروسية الأوكرانية في تذكيرنا بوجود عالم آخر خارج نطاق القوى الكبرى وحلفائها الأساسيين. وهو العالم الذي يتألف بشكل رئيسي من بلدان الجنوب، في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، والذي بات يُعرف كعامل رئيسي في العلاقات الدولية، وأطلق عليه اسم "الجنوب العالمي".

قامت مجلة Foreign Affairs الأمريكية مؤخراً بإصدار عدد خاص لفهم دوافع "العالم غير المتحالف". مشيرةً إلى أن المشهد الجيوسياسي اليوم لا يتم تحديده فقط بالتوترات بين الولايات المتحدة ومنافسيها الكبرى الصين وروسيا، بل أيضاً بالمناورات التي تقوم بها القوى الوسطى وحتى القوى الأضعف. هذا النهج الواقعي يشجّع على التفكير بعمق في القوى والمصالح المتعارضة في العالم اليوم، وقد يسهم في توجيه السياسات الدولية نحو تحقيق التوازن والاستدامة.

تضمّ بلدان الجنوب العالمي أغلبية ساحقة من سكان العالم، إلا أن رغباتهم وأهدافهم قوبلت بالتجاهل اللامبرر لفترة طويلة ضمن سياق العلاقات الدولية. في النصف الثاني من القرن العشرين، سعت تكتلات مثل حركة عدم الانحياز ومجموعة الـ77 في الأمم المتحدة جاهدةً لتعزيز مصالح البلدان الفقيرة والمستعمرة سابقاً في عالم كانت تهيمن عليه القوى الإمبراطورية السابقة. حيث بُني تضامنهم على أسس راسخة مبنية على الأفكار والمبادئ المشتركة، وعلى الرغم من ذلك، لم تكن النتائج دائماً ملموسة.

حتى قبل انتهاء الحرب الباردة، بدأت القضايا الأخلاقية التي دفعت هذه الدول للتعاون معاً في الضعف تدريجياً. فعندما توجت العقود الأحادية القطب بانتهاء الحرب الباردة، بدأ الجنوب العالمي وكأنه قد تم تجاهله وحجبه بشكل نهائي عن الساحة الدولية، بوصفه قوة لا تستحق الاعتراف والاستماع لصوتها، ومع ذلك، نشهد اليوم عودة الجنوب العالمي بشكل لافت.

اللافت في الأمر، أنه ليس هناك تنظيم مكتمل أو كتلة متماسكة في هذا السياق الجيوسياسي الجديد، إذ تظهر تأثيراته من خلال تكتلات جديدة ومتزايدة، مثل مجموعة بريكس، التي تسعى للتوسع خارج حدود أعضائها الأصليين. كما يظهر تأثيره أيضاً من خلال إجراءات الدول الفردية وطموحاتها بالتوسع واقتحام المشهد السياسي بفعالية. 

هذه الإجراءات، التي تدفعها مصالحها الوطنية بدلاً من الاعتماد على التضامن الجنوبي، قد تؤدي إلى نتائج إيجابية تصبّ في بعض الأحيان في مصلحة الكيان بشكل كامل،  إذ بدأت هذه الإجراءات بتقييد سلوك القوى الكبرى وتحفيزها على الاستجابة على الأقل لبعض مطالب الجنوب العالمي.

من "العالم الثالث" إلى "الجنوب العالمي": تحول مصطلحات الدول النامية في العلاقات الدولية

في عملية التحرر من الاستعمار، التي تبعت الحرب العالمية الثانية، انضمت العديد من الدول الجديدة إلى الأمم المتحدة في الفترة من الأربعينيات حتى السبعينيات. وفي ورقة العمل التي كتبها العالِم الاجتماعي الفرنسي ألفريد سوفي عام 1952، صيغ مصطلح "العالم الثالث"؛ ليُشير إلى هذه الدول الجديدة. 

رأى سوفي تشابهاً بين المستعمرات السابقة التي أصبحت مستقلة حديثاً، وبين "الطبقة الثالثة" في فرنسا قبل الثورة، وهي الفئة من المجتمع التي تتألف من المواطنين العاديين والمهمشين والمستضعفين. ومع نهاية الحرب الباردة وانهيار العالم الثاني الشيوعي، بدأ مصطلح "العالم الثالث" يبدو قديماً ومحتقراً تجاه الدول الضعيفة في النظام الدولي. 

اعتمدت الأمم المتحدة بعدها مصطلح "الدول النامية"، وعلى الرغم من استمرار استخدامه حتى اليوم، فإنه يشهد تراجعاً تدريجياً في الاستخدام. وقد تعرّضت فكرة تصنيف الدول إما كـ "نامية" أو "متقدمة" لانتقادات شديدة؛بسبب دعمها ضمنياً لفكرة تطور خطي – أي الاعتقاد بأن المجتمعات يجب أن تتقدم بشكل مستمر حتى تشبه تلك التي في اليابان والولايات المتحدة وأوروبا، لذا، أصبح مصطلح "الجنوب العالمي" هو الاختيار الأنسب لتفادي هذه الانتقادات.

يمتد "الجنوب العالمي" عبر مساحة شاسعة تشمل بشكل رئيسي (وليس حصرياً) دولاً فقيرة أو منتصفة الدخل، وتمتد هذه الدول من جنوب شرق آسيا وجزر المحيط الهادئ إلى أمريكا اللاتينية. 

في العقود الأولى لعملية التحرر من الاستعمار، لم يكن الحديث عن الجنوب العالمي بدقة محدداً ككيان منسجم. تأثرت جميع هذه الدول بشكل كبير بتجربة الاستعمار ونضالها من أجل الحرية من المستعمر الأوروبي. وكانت معظم هذه الدول ضعيفة اقتصادياً، فتحالفوا معاً في منتديات ومؤسسات وعهود وعقود تهدف إلى إنشاء قوة جديدة وحيوية في السياسة العالمية من خلال منصة تنسيق مشتركة للعمل.

فعلى سبيل المثال، قدم مؤتمر باندونغ الذي عُقد عام 1955 لدول أفريقيا وآسيا، وتأسيس حركة عدم الانحياز عام 1961، رؤية للتضامن الدولي، تركز على معارضة الاستعمار ومكافحة العنصرية، ودعم الاقتصادات النامية، ورفض الأسلحة النووية، والاحتفاظ بالثقة في الأمم المتحدة للمساهمة في الحفاظ على السلام وتحقيق العدالة في النظام الدولي.

تطور الجنوب العالمي: العودة إلى الواجهة بوجهة نظر واقعية

على الرغم من تحسن الأمور بشكل كبير، فإنه لا يجب الانتظار لرؤية تقدم ملموس على المدى القريب. ففي ظل تراجع هيمنة عصر الأحادية القطبية الذي تلا نهاية الحرب الباردة، يبدأ الجنوب العالمي اليوم في العودة إلى الواجهة مرة أخرى. حيث نشهد بزوغ نظام جديد يتشكل معتمداً أكثر على مبدأ الواقعية بدلاً من ما يمكن أن نسمية الأملية، إذ نرى تركيزاً كبيراً على المصالح الوطنية وزيادة اللجوء إلى المناورات وسياسية القوة.

والأهم من ذلك، فإن الدول الجنوبية لا تزال غير راضية تماماً عن مستوى تمثيلها في هياكل اتخاذ القرار العالمية. إذ يتعارض هذا التهميش بشكل متزايد مع التأثير الاقتصادي الفعلي الذي تمتلكه القوى الوسطى، فهي قوة لم تكن موجودة في الستينيات ببساطة. 

فمن الملحوظ أن هناك تصاعداً من دول الجنوب في إصرارها على الحصول على استقلال استراتيجي وحصة أكبر من القوة السياسية في النظام الدولي، وهذا ينطبق بشكل خاص على القوى الوسطى في الجنوب العالمي، مثل البرازيل وإندونيسيا وجنوب أفريقيا. 

قادة مجموعة بريكس – رويترز

وتعتبر بعض هذه الدول مصادر حاسمة للمعادن وسلاسل الإمداد، وأحياناً الابتكارات التي تكون ضرورية للنمو العالمي ومكافحة التغير المناخي، مما يمنحها تأثيراً أكبر مما كانت تمتلكه في القرن العشرين. 

ويجب الإشارة إلى نقطة مهمة أنه عندما نذكر دول الجنوب العالمي حالياً، نذكر دولاً مثل تركيا (حليفة في حلف شمال الأطلسي) ودول مصدرة للنفط في منطقة الخليج مثل السعودية، بالإضافة إلى دول كانت فقيرة سابقاً مثل تشيلي وسنغافورة التي أصبحت أكثر ازدهاراً.

تحديات تواجه تعاون الجنوب 

بالطبع لن يفرش الطريق بالورود أمام الجنوب، فبجانب مواجهة هيمنة القوى الكبرى، ربما تظهر بعض العقبات الداخلية، فبالنظر لتباينات الواسعة داخل دول الجنوب العالمي وصعود القوى المتوسطة فيه، تطرح بعض الأسئلة المهمة حول استدامة هذا الإطار الجيوسياسي. إذ يمكن أن يفقد الجنوب العالمي أهميته ككيان جيوسياسي إذا قام أعضاؤه بالتنافس المباشر بينهم. ناهيك عن أن صراعات المناخ القائمة قد تؤدي إلى تفاقم هذا الأمر، حيث يمكن أن تظهر انقسامات بين الدول ذات الأثر الكبير في انبعاثات الكربون، مثل البرازيل والهند وإندونيسيا، والدول الفقيرة ذات الأثر الضئيل في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وهذا يمكن أن يؤثر سلباً على تضامن الجنوب العالمي.

مع ذلك، حتى الآن، لا توجد علامات واضحة على التنافس الكبير بين القوى المتوسطة مثل البرازيل والهند وإندونيسيا وجنوب أفريقيا، فالانفصال الجغرافي بينهم وعدم وجود نزاعات كبيرة تؤثر في مصالحهم الرئيسية يمكن أن يسهم في استمرار التعاون بينهم. 

خاتمة

سيظل التمثيل والتأثير الجيوسياسي للجنوب العالمي مستمر، ما دام يرفض السماح له في التأثير المباشر في النواة الداخلية لهياكل السلطة الدولية. 

ما لم تُمْنَح هذه الدول حقها في التأثير الكبير في إدارة النظام الدولي، فإن الجنوب العالمي سيظل قوة للتغيير، وسيمارس ضغوطاً على القوى الكبرى ويتحدى شرعية بعض سياساتها، ويقيد نطاق عملها في المجالات الرئيسية. 

الاستمرار في الحفاظ على وضع النظام العالمي الحالي ومقاومة تحقيق تمثيل تشاركي في إدارته، سيزيد فقط من الاستياء من الإصلاح الجاد. لذلك، سيبقى الجنوب العالمي ككيان جيوسياسي مؤثر ما دامت تلك التحديات مستمرة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

زيد إبراهيم
كاتب وباحث فلسطيني
تحميل المزيد