قبل 20 عاماً، التقى ماتياس لوخمان بالراحل هورست فاين للمرة الأولى؛ ليكتشف لوخمان، مدير الفئات السنية لفرق ما دون 15 عاماً في نادي ماينز الألماني في ذلك الوقت، أنه لا يزال لا يعرف شيئاً عن كرة القدم، على الرغم من حصوله على شهادات في كل من الرياضة، والفيزياء، والطب، وحصوله على رخص تدريبية.
فاين، الذي كان في شبابه لاعباً للهوكي، قبل أن يُصبح أحد أهم العقول التي طوّرت قطاع الفئات السنية الصغيرة في لعبتي الهوكي وكرة القدم في العالم، ابتكر أساليب لتطوير المواهب بسن صغيرة، كانت سبب إلهام عدد من المسؤولين والمدربين في كرة القدم في أوروبا، والتي اعتمدت بشكل أساسي على كرة القدم المصغرة التي ابتكرها فاين وسمَّاها "Funiño".
كان المدرب الألماني رجلاً ثورياً، متمرداً بطبعه، رفع صوته في وجه التقاليد، لم تعجبه طرق التدريب التقليدية في موطنه، وتساءل دائماً عن قتل إبداع الصغار وقيد الموهبة وإجبار الأطفال على مجموعة من التدريبات التي لا تتناسب مع أعمارهم وتحدّ من حريتهم مع الكرة.
لذلك، أصبح فاين من أوائل الذين أعلنوا الحرب على تدريبات "11 ضد 11" التي لا تزال تُستخدم حتى يومنا هذا في الكثير من الأكاديميات في مختلف الدول.
تلك الأفكار والمبادئ التي تحدث عنها فاين في لقائه مع لوخمان، ألهمت الأخير، الذي بات أستاذ كرة القدم، أو كما يُقال بالألمانية "Fußball-Lehrer"، وهو أعلى مُسمى في ألمانيا لمدرب كرة القدم. ليمتلك لوخمان في ما بعد شهادتي دكتوراه ويصبح "بروفيسور" في جامعة إرلانغن-نورنبرغ الألمانية.
بعد ذلك، قضى لوخمان العقد الأخير وهو يزور الأكاديميات في ألمانيا وحول العالم، ليتأكد من إتقان مدربي الفئات السنية الصغيرة مبادئ كرة القدم المصغرة بالشكل الصحيح.
ولم يتوقف لوخمان عن إطلاق صافرات الإنذار لدى المسؤولين عن كرة القدم الألمانية؛ إذ أخبرهم مراراً وتكراراً بمخاطر عدم الاتجاه نحو التغيير وتطوير الأفكار والأساليب المعتمدة في تدريبات الأطفال، ولكن من دون جدوى.
وبعد الإخفاقات المتواصلة لفرق الفئات السنية للمنتخب الألماني في البطولات الدولية، ثم الفضيحة المدوية بخروج منتخب ألمانيا الأول من دور المجموعات في بطولة كأس العالم "روسيا 2018″، والخسارة ضد إسبانيا في العام 2020 بنتيجة (6-0)، وملاحظة افتقار ألمانيا للمواهب، ومشكلة مركز المهاجم الصريح في المنتخب الأول، قررت "الأفعى التخلي عن جلدها القديم كي لا تموت"، والحل كان بمقترح "Funiño" ألماني.
يظهر مدير المنتخب الألماني أوليفر بيرهوف في الشاشات باستمرار. يتحدث عن حاجة الكرة الألمانية إلى التغيير؛ لذلك نظم ندوة في العام 2019 بعنوان "العودة إلى قمة العالم"، ليُقدم المشروع المنتظر أمام عدد كبير من المسؤولين والمدربين، والذي من شأنه إعادة ألمانيا إلى المكانة التي كانت عليها قبل 5 سنوات، على قمة العالم.
يتناول بيرهوف مواضيع عديدة أبرزها استكشاف المواهب وتغيير نظام الأكاديميات، معتمداً على أفكار فاين كمرجع له، بعد إلحاح كبير من ماتياس لوخمان. ويُناقش بيرهوف أهمية منح الطفل مساحة ووقتاً أكبر مع الكرة، وذلك عبر اعتماد نظام كرة القدم المصغرة.
هذه البرامج تنطبق على فرق تحت 11 سنة وتحت 9 سنوات وتحت 7 سنوات، والتي تُعرف باسم "Funiño"، اختصاراً لكلمة "Fun" – مرح بالإنجليزية، وكلمة "niño" – أي الطفل بالإسبانية.
في السياق نفسه، يقول بيور ريس، الرجل الذي يعمل في قطاع الناشئين في الاتحاد الألماني لكرة القدم منذ 8 سنوات، إنه بعد 3 سنوات من التخطيط ومحاولات الإقناع تلك، قرر اتحاد اللعبة أخيراً أن يُبدي اهتماماً لمشروع تطوير أنظمة أكاديميات كرة القدم، واعتماد برامج خاصة من شأنها تطوير إبداع الأطفال.
وبعد مرحلة تجريبية مدتها سنتان شاركت فيها جميع الاتحادات الإقليمية البالغ عددها 21، قدم الاتحاد الألماني لكرة القدم الشكل الجديد لتلك القوانين في آذار/مارس الماضي.
في كل إقليم، 30٪ من الأندية مُلزمة بتطبيق القواعد الجديدة، وسترتفع هذه النسبة إلى 60٪ في العام المقبل، وبعد ذلك سيتعين على جميع الأندية اعتماد هذه القواعد بحلول موسم 2024-2025.
استعان الاتحاد الألماني بخدمات بعض الخبراء من دول أوروبية أخرى، قبل تقديم هذا المشروع.
يسعى القائمون على كرة القدم في ألمانيا إلى تغيير مبادئ الكرة لدى الأطفال، لتصبح المفاهيم مشابهة لكرة الشارع؛ لا حكم يقود المباريات، فرق مكونة من 7 لاعبين كحدٍ أقصى في ملعب صغير مساحته تكبر مع ازدياد عمر اللاعبين.
مساحة ووقت أكبر مع الكرة
إذا قارنا الشكل القديم لكرة القدم في الأكاديميات بالشكل الجديد، لوجدنا أن اللعبة، في مختلف الفئات العمرية، كانت تجري 7 ضد 7 بشكلها التقليدي.
وفقاً لهذا الشكل الجديد، تكون المواجهات بين الأطفال في سن السادسة (2 ضد 2)، كل فريق يدافع عن مرميين، ومع تقدمهم في السن وبلوغهم السابعة من العمر مثلاً، تصبح المواجهة 3 ضد 3، وفي سن الـ11 تصبح المواجهة 7 ضد 7، وهكذا.
لم تكن ألمانيا وحدها التي اتخذت هذه الخطوة، إنما قامت بلجيكا بتطبيق الأمر نفسه في الفئات السنية، وذلك بعد أن اجتمع فان دير هايخن، وهو عضو في الاتحاد البلجيكي لكرة القدم، مع كبار المسؤولين عن اللعبة، وطرح عليهم اتخاذ القرار الصحيح والشجاع لتغيير اللعبة من جذورها وإحداث ثورة فيها.
جاء هذا الطرح بعد فشل بلجيكا في بلوغ الدور الثاني من كأس أمم أوروبا 2000، التي نظمتها بلجيكا وهولندا معاً.
أهم عامل في اللعبة ليس الجمهور أو المدرب أو الفريق، بل اللاعب نفسه. لذلك، إن فهم سبب افتقار جيلك للاعبين مبدعين، يبدأ عند إدراكك أن البيئة التي خلقتها لذلك الجيل من اللاعبين منذ صغرهم، والمدربين الذين احتكوا بهم، ونوعية التدريبات التي قدمتها لهم، هي المشكلة، هذا ما يقوله فان دير هايخن.
وأضاف دير هايخن: "عليك أن تخلق البيئة المناسبة لذلك الطفل، ثم تضعه في البرامج التي تناسبه، وتمنحه حرية أكبر، مساحة ووقتاً أكبر مع الكرة؛ لذلك تم الاعتماد على نشاطات كرة القدم المصغرة".
وواحد من أهم أهداف المشروع، هو العناية باللاعبين الذين لا يتطورون بسرعة، مثلما حدث مع كيفين دي بروين، بقدر ما هو أمر مفاجئ بالنسبة لك، بعد أن أصبح أحد أفضل لاعبي الوسط في البريميرليغ. ويكون ذلك عبر إنزالهم لمرحلة سنية أقل حتى يتمكنوا من اللعب في مباريات متساوية ويظهروا مهاراتهم فيها.
باناجيوتيس شاتزياليكسيو، عضو الاتحاد الألماني لكرة القدم، يقول إنه بحسب البيانات المتوفرة لديهم، فإن أكثر من ثلث المواهب لا تتم مساعدتها على إظهار موهبتها على النحو الأمثل في ألمانيا. وهذا ما يُنتج مجموعة من اللاعبين الذين يفتقرون للمسة الأولى والتحكم الجيد بالكرة، وذلك بسبب عدم اضطرارهم لأخذ قرارات مع الكرة وعدم حصولهم على وقت كافٍ معها عندما كانوا بالأكاديميات بسن صغيرة.
يُطلب من الأطفال بسن صغيرة اللعب بفرق مكونة من 8 أفراد، أو 11 فرداً، تعرض الأطفال إلى التأقلم في بيئة لا تُناسبهم. الأمر يُشبه أن تطلب من الطفل ركوب دراجة هوائية خاصة بالبالغين. في المقابل، كل ما يوده ذلك الطفل بهذه السن الصغيرة هو الجري بالكرة وركلها.
يحصل الطفل في هذا المنهج على وقت أكبر مع الكرة، وذلك باعتماد نظام المداورة الذي يسمح لجميع الأطفال بالحصول على وقت كافٍ للعب، وأن تكون الكرة بين أقدامهم، مع وجود توجيه من مدربين متخصصين بعد نهاية الحصص والنشاطات.
هذا التغيير يؤدي إلى تحسن إدراك اللاعب بشكل تلقائي مع ازدياد الخيارات المتاحة. سيحصل اللاعب على وقت أكبر مع الكرة بعد تقليل عدد اللاعبين، وستمنحه خيارات هجومية أكثر عندما يكون في حالة الاستحواذ؛ لأن بإمكانه التسجيل على مرمييْن. والأمر نفسه عندما لا تكون الكرة معه، وعليه أن يُدافع عن مرمييه.
ويبقى العامل الأهم هو تعليم المدربين، فهو مفتاح التغيير الأول والأساسي. تعليم المدربين النظر إلى شخصية كل لاعب، ثم القيام بتكييف البيئة لتلائم كل واحد منهم. هذا كان الأمر الأهم بالنسبة إلى فان دير هايخن في البداية، ولكل شخص يؤمن بمشروع كرة القدم المصغرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.