الصين تعاني من أزمة “انكماش اقتصادي” وعدم إنفاق الناس للأموال.. كيف يؤثر ذلك على الاقتصاد العالمي؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/09/09 الساعة 11:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/09/09 الساعة 11:15 بتوقيت غرينتش

ظهر تدهور دعائم الاقتصاد الصيني بجلاءٍ صارخ خلال الأشهر الأخيرة مع تخلف بيانات شهر يوليو/تموز عن التوقعات بفارقٍ كبير. إذ انزلق الاقتصاد الصيني في فخ الانكماش الاقتصادي بالتزامن مع انخفاض أسعار المستهلكين في يوليو/تموز، وذلك للمرة الأولى منذ أكثر من عامين.

 حيث تراجع مؤشر أسعار المستهلك الرسمي، الذي يقيس معدل التضخم بنسبة تبلغ 0.3% خلال الشهر الماضي، وذلك مقارنةً بالعام السابق. ويزيد هذا من الضغوطات على كاهل الحكومة من أجل إنعاش الطلب في ثاني أكبر اقتصادات العالم. كما يأتي ذلك في أعقاب بيانات الاستيراد والتصدير الضعيفة التي أثارت الشكوك في سرعة تعافي الاقتصاد الصيني عقب الجائحة.

لكن الأمر الأكثر إثارةً للقلق هو انخفاض أسعار الإسكان، خاصةً داخل بلدٍ يحتفظ ثلاثة أخماس سكانه بأصولهم في شكل عقارات. حيث تراجعت أسعار المنازل القائمة في 100 مدينة حول الصين بنسبة 14% في المتوسط، وذلك مقارنةً بذروتها المسجلة في أغسطس/آب عام 2021. ويتمثل العلاج القياسي للانكماش الاقتصادي عادةً في أن تزيد الحكومة حجم المعروض النقدي، لا سيما من خلال تشجيع البنوك على إقراض المزيد. لكن الكثير من الشركات والأسر لم تُبدِ اهتماماً كبيراً بالاقتراض مؤخراً، باستثناء الشركات الحكومية التي تمتثل لتوجيهات هيئات الحكومة بمواصلة الاقتراض والاستثمار -حتى في المشروعات ذات العائدات المنخفضة.

أمضت الولايات المتحدة غالبية أوقاتها في الـ18 شهراً الأخيرة وهي تكافح للسيطرة على التضخم. بينما تعاني الصين مشكلة معاكسة، وهي أن الناس والشركات لا ينفقون المال، ما يضع الاقتصاد على مشارف وضعيةٍ سيئةٍ تُدعى "الانكماش الاقتصادي". وأدت تلك الأنماط إلى تضخيم المخاوف المرتبطة بالانكماش الاقتصادي، وهو أحد الأنماط المعيقة المحتمَلة التي تؤدي إلى تراجعٍ كبيرٍ في الأسعار، وتميل إلى خفض صافي ثروات الأسر كما حدث في اليابان، وتجعل عملية سداد الديون بالغة الصعوبة على المقترضين.

يُذكر أن الصين تُنتج نسبةً كبيرة من البضائع المباعة حول العالم. ولهذا فإن امتداد الانكماش الاقتصادي لفترةٍ مطولة في البلاد قد يكون له أثره الإيجابي المحتمَل، والذي يتمثل في المساعدة على كبح ارتفاع الأسعار في أماكن أخرى من العالم كالمملكة المتحدة. لكن غمر السلع الصينية ذات الأسعار المخفضة للأسواق العالمية قد يكون له أثره السلبي على المصنّعين في الدول الأخرى. إذ ربما يضر هذا باستثمارات الشركات ويؤدي إلى الضغط على العمالة. كما أن فترة تراجع الأسعار في الصين قد تضر بأرباح الشركات وإنفاق المستهلكين أيضاً، ما قد يؤدي بدوره إلى رفع معدلات البطالة أكثر. وربما يسفر هذا عن تراجع الطلب على الطاقة، والمواد الخام، والغذاء داخل الصين التي تعد أكبر سوقٍ في العالم، ما قد يضر بالصادرات العالمية كذلك.

ما الآثار المحتمَلة للتضخم في الغرب والانكماش في الصين؟

عانى العالم -باستثناء الصين- من موجة تضخمية على مدار العامين الماضيين. وربما ارتفعت الأسعار بوتيرة عالية في غالبية الدول، لكن الأسباب اختلفت بين مكانٍ وآخر بشكلٍ ملحوظ. وصحيحٌ أن العالم بأسره تأثّر بارتفاعات الأسعار الناجمة عن أزمات سلاسل التوريد العالمية، لكن الارتفاعات تضخّمت داخل الولايات المتحدة نتيجة النمو القوي للغاية في طلب المستهلكين. وجاءت زيادة الطلب في أعقاب التوسع النقدي الكبير عامي 2020 و2021، عندما أرسلت إدارتا ترامب وبايدن شيكات كبيرة إلى الأسر لمساعدتها في مواجهة أزمة كوفيد-19. بينما لم يكن الطلب القوي بمثابة مشكلة لدى أوروبا والاقتصادات الناشئة. حيث عانت تلك الاقتصادات نتيجة الهجوم الروسي على أوكرانيا بصورةٍ أكبر. وكان الضرر في أوروبا ناجماً عن ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي. أما في الدول الأفقر، فقد أدت أسعار الغذاء وتكاليف الطاقة المرتفعة إلى زيادة واسعة في معدلات الأسعار.

الانكماش الاقتصادي في الصين

خرجت الاقتصادات الغربية من جائحة كوفيد-19 وهي تعاني من تضخمٍ مرتفع، وسط عرض محدود وطلب يعاود الارتفاع. ولم تواجه الصين الديناميات نفسها منذ أنهت تدابير "صفر كوفيد" الصارمة، لأن قوة صناعتها المحلية ساعدتها في تخفيف اختناقات العرض، ولأن أسعار السلع العالمية كانت قد بدأت في الاعتدال.

لكن أوجاع بكين الاقتصادية تفاقمت في الأسبوع الماضي بعد أن تبيّن أنها وقعت في فخ الانكماش الاقتصادي. حيث أنهت بكين إغلاقات صفر كوفيد القاسية التي امتدت لنحو ثلاث سنوات في أواخر 2022، لكنها عانت بعدها من أجل إحياء النمو ووقف الانكماش ودعم القطاع العقاري الذي ضربته الأزمة. ولا شك أن العام الجاري كان عاماً عصيباً بالنسبة للاقتصاد الصيني حتى الآن. إذ يمثل الانكماش الاقتصادي مصدر قلق عندما يكون متفشياً في المقام الأول، وعندما يكون ناجماً عن محاولات الشركات اليائسة لبيع منتجاتها إلى مستهلكين غير راغبين أو غير قادرين على الشراء نتيجة الأوقات العصيبة. لكن هذا التوصيف لا ينطبق  على الاقتصاد الصيني أو حركات الأسعار الصينية، ومن المرجح أن يكون الانكماش الاقتصادي الصيني مؤقتاً لهذا السبب. وربما كان تعافي الاقتصاد بعد إعادة فتح أبوابه مخيباً للآمال -وما يزال قطاع العقارات مصدر قلق خطير-، لكن الإنتاج الاقتصادي يستمر في النمو، ما يجعل التوسع بنسبةٍ تقارب الـ5% خلال العام الجاري احتمالاً قائماً. وتراجعت أسعار المستهلك الصيني بنسبة 0.3% خلال العام الذي انتهى في يوليو/تموز، لكننا شهدنا انخفاضاً بسيطاً في التكاليف من قبل خلال 2021. ويبدو أن الانكماش الحالي سيكون مؤقتاً كما كان الحال من قبل -أي سيكون نتيجةً لتأثيرات القاعدة أكثر من كونه مرتبطاً بأي مشكلات أعمق. ويُمكن القول إن تعافي الاستهلاك الصيني ما يزال ضعيفاً وغير متساوٍ، لكنه يظل بعيداً كل البعد عن شكل الانكماش الاقتصادي الذي حدث في اليابان. بل يبدو من المرجح أن تكون ضغوط الأسعار "محلية بشدة" في سيناريو الانكماش الصيني.

أضف إلى ذلك أن مشكلة التضخم الكبرى -خاصةً في أوروبا والاقتصادات الناشئة- تتمثل في ارتفاع تكلفة الواردات، وانخفاض مستويات المعيشة، ودفع الشركات المحلية لمحاولة حماية هوامش أرباحها برفع الأسعار، بينما يعاني العاملون من أجل مواكبة كل ما يحدث. وسجّلت أسعار السلع الصناعية الصينية انخفاضاً بنسبة 4.4% في يوليو/تموز مقارنةً بالعام السابق. ومن المؤكد أن انخفاضاً كهذا له تأثيره على الخارج، حتى وإن كان التأثير بسيطاً. إذ ستستفيد الدول الأوروبية من ضعف الاقتصاد الصيني الذي يخفض هامش المنافسة على إمدادات الغاز الطبيعي، بالتزامن مع تكيُّف الأولى مع قرارها بوقف اعتمادها على الإمدادات الروسية. لكن من الخطأ طرح فكرة أن الجميع سيستفيد من ضعف الاقتصاد الصيني -ولو قليلاً. حيث أسهمت الصين بـ40% من معدلات النمو العالمية على مدار السنوات الـ10 الماضية. مما يعني أن أي مشكلات اقتصادية تواجهها بكين ستلقي بظلالها على الناتج العالمي. ومع ذلك فإن تداعيات الانكماش الصيني تبدو تحت السيطرة في الوقت الراهن، سواءً داخل الصين نفسها أو بالنسبة لبقية العالم.

وعند النظر إلى التأخيرات المعتادة، سنجد أن تداعيات الانكماش لم تبدأ في التأثير على أسواق المستهلكين العالمية سوى مؤخراً، مع أرجحية أن يتسارع انخفاض الأسعار على مدار الأشهر المقبلة. يُذكر أن البنك المركزي الصيني قد خفض أسعار الفائدة الأساسية للمرة الثانية خلال 3 أشهر من أجل دعم الاقتصاد، لكن الخطوة لم تثر حماس المستثمرين حتى الآن. لهذا نستطيع القول إن خطر تعرض الصين لضغوطات انكماشية -أكثر وضوحاً- هو خطر يعتمد في المقام الأول على سياسات الحكومة في الأشهر المقبلة. كما أن الحوافز المالية الكافية لدعم الطلب المحلي قد تؤدي لتسريع التضخم من جديد، بينما قد تُسفر التدابير السياسية المتأخرة أو غير المواتية عن الدخول في دوامة هبوطية أكبر.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

رحمي إنجة كارا
باحث اقتصادي تركي
الأستاذ المساعد والباحث لدى مركز الشؤون الدبلوماسية والدراسات السياسية (DİPAM)
تحميل المزيد