من يوقف الجرافات التي تسحق وتهدم الآثار التاريخية في مصر؟!

عربي بوست
تم النشر: 2023/09/07 الساعة 14:18 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/09/07 الساعة 14:19 بتوقيت غرينتش
القرافة والمعروفة أيضًا باسم مدينة الموتى، في القاهرة، يبلغ طولها 6.4 كم، من الشمال إلى الجنوب/رويترز، أرشيفية


ليس بالضرورة أن تكون مصرياً حتى تشعر بالحزن العميق، وينتابك الضيق جراء ما يحدث من إهدار للتراث الإنساني العالمي، بتدمير عدد من المباني التاريخية وهدم مقابر أثرية فوق رؤوس أصحابها، الذين تركوا بخلاف القيمة الأثرية لتلك الأحجار إسهامات كالدرر يهتدي بها البشر في دنياهم ودينهم. 

يكفي أن تكون إنساناً لديه القدر البسيط من المعرفة بأهمية التراث وقيمة التاريخ، فتنزعج من صور الجرافات وهي تنقضّ على التاريخ وتسحق جدرانه كالوحش في الغابة عندما يتمكن من فريسته ويمزقها بفكه ليشبع بها غريزته حتى يشبع!

حالة من القلق الشديد تنتاب قطاعات كبيرة من المجتمع المصري، عامته قبل نخبته في الثقافة والسياسة والتاريخ والفن والأدب وشتى العلوم، وحتى أصحاب الهموم بعد انتشار صور على مواقع التواصل الاجتماعي لحملات إزالة شرعت في تنفيذها محافظة القاهرة لأكثر من 2600 مقبرة داخل القاهرة التاريخية، بدعوى توسعة الطرق وإنشاء محور الفردوس لمواجهة الأزمات المرورية في القاهرة. 

لعل أول ما يلفت انتباه كل من تقع عينه على صور تلك الإزالات أو المقابر المكتوب عليها باللون الأحمر (إزالة) أو حرف إكس النسق العمراني والبعد الجمالي والزخارف التي تفوح منها رائحة التاريخ وجدران شامخة رغم ما تواجهه من إهمال. 

نعم إنها مدينة الأموات في القاهرة التاريخية، كما يطلق عليها بعض الباحثين في التاريخ والمهتمين به، وتنقسم هذه المدينة إلى عدة مقابر من أهمها جبانة الإمام الشافعي، قرافة المماليك، مقابر السيدة نفيسة، باب الوزير، باب النصر، والمجاورين. 

ولا أعلم من أين أبدأ حديثي عن العظمة المهددة بآلات عملاقة بمخالبها الحديدية، ومحركاتها الميكانيكية التي لا تعرف الرحمة، اخترعها الإنسان ويسيرها في أي مكان، هل أبدأ بالتطرق للقيمة التاريخية لتلك الجدران وهذه المباني، التي تعتبر إرثاً يوثق تاريخ مصر منذ الفتح الإسلامي؟ أم أنطلق بذكر أصحاب الذكر والأثر الراقدين تحت تراب هذه القبور، بعد أن امتلأت الدنيا بأعمالهم نوراً، وصنعوا في نفوس البشر السرور؟

دعونا نبدأ بالأموات المهددة رفاتهم بالتبعثر تحت حطام جدران قبورهم، نبدأ بالإنسان، كونه صانع الحضارة وصاحب العمران. ولكن بمن نبدأ؟ هل نبدأ بالحديث عن الشيخ ورش، الذي يقرأ أهل مصر القرآن بروايته على مدار 800 عام، أم نتحدث عن عميد الأدب العربي طه حسين، الذي وصل العام الماضي إخطار لأسرته بإزالة قبره، وبعد الاعتراض الشعبي على القرار تراجعت محافظة القاهرة عن إزالته واكتفت باختراق أحد أعمدة الكوبري العلوي جزء من مدفنه؟

الآثار التاريخية في مصر

أم نتحدث عن الإمام الشافعي، العالم المصري صاحب المذهب الشافعي ومؤسس علم أصول الفقه، ثالث الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة التي أعلنت أسرته في 9 مايو 2023 أنها تلقت إخطاراً بإزالة مقابر الشافعي المشيدة عام 1260 ميلادية وبعد تداول الخبر إعلاميا نفت الحكومة وجود أي نية لإزالة قبره! كيف نصدق هذا النفي وقد تمت إزالة قبر الكاتب والروائي يحيى حقي هذا الاسم الرائد في الرواية القصيرة، والذي تم إزالة قبره منذ فترة. 

عمَّن نتحدث؟ عن شاعر النيل حافظ إبراهيم، أم عن أمير الشعراء أحمد شوقي ومحمود سامي البارودي، أم قاضي القضاة وشيخ الإسلام العز بن عبد السلام وغيرهم من العظماء الذين أفنوا أعمارهم في خدمة الإنسانية وتقديم أعمال ما زالت حية في نفوسنا ونهتدي بها ونستقي منها القيم والمثل العليا ديناً وأدباً.

عظماء خلدهم التاريخ بما قدموه من عطاء لا يُنسى مهما مرت عشرات أو حتى مئات السنين، ولو أنهم في إحدى الدول الغربية لاعتبرت هذه القبور آثار يولى لها اهتمام بالغ وقد يتم تشييد متحفا خاصا لكل قبر تخليداً لأصحاب تلك القبور والتفاخر بجمال وعتاقة جدرانها. لمَ لا وهم يحاولون صناعة تاريخ لأموات لهم إسهامات جليلة، ولكنها إذا ما قورنت بأعمال أحد من المهددة قبورهم بالإزالة ربما سنجدها أقل من حيث القيمة والأثر. 

 حالة القلق لم تقتصر على شريحة مجتمعية بعينها، ولكنها حالة سادت كل الأطياف بما فيها مؤسسات الدولة ذاتها حيث عبر أعضاء في مجلسي الشيوخ والشعب رفضهم لتلك الحملات وطالبوا بوقفها فوراً ووجهوا الحكومة بضرورة الحفاظ على تلك الآثار والتراث الثقافي المصري من العبث.

على الجانب الرسمي، تعددت التصريحات حول أمر هذه الإزالات، ولكنها لم تكن مطمئنة على الإطلاق، وينتابها التخبط والغموض في بعض المواضع. فعلى سبيل المثال صرح الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، مصطفى وزيري، بأن هذه المقابر غير مسجلة في سجلات الآثار والتراث، وأن المقابر ليست ملكية خاصة للمواطنين، ولكنها تُستخدم من قبل المواطنين كحق انتفاع يجوز للدولة استخدامها والتصرف فيها!

خطورة هذا التصريح ليست في الموقف القانوني للمقابر، كونها حق انتفاع ويسمح قانون الجبانات رقم 5 لسنة 1966 للدولة استخدامها لأغراض غير ذلك تحقيقاً للمنفعة العامة، ولكن مكمن الخطورة في توصيفه لتلك المقابر بأنها لا تعتبر آثار على الرغم من توافر كل الأركان المطلوبة لتسجيل عدد كبير منها في سجلات الآثار بموجب قانون الآثار 1983 فشرط مرور 100 عام على مبنى لاعتباره أثراً متوفر في مئات القبور في هذه المناطق، ولكنها مهمَلة ولا تجد من يعمل على تنظيفها ورفع المخلفات التي تخفي معالم الكثير من المنشآت الأثرية في القاهرة التاريخية.

إهمال الآثار الإسلامية في القاهرة التاريخية لم يتوقف عن المقابر، بل طال بيوت ومنشآت كلما وقعت عليها أعين الناس تنتابهم الحسرة من الإهمال وانتشار القمامة والمخلفات حولها وبداخلها كأنها إنسان مكبل بالقيود وتحيطه النيران من كل مكان وينتظر من ينقذه من الموت. 

هذا الإهمال اعترفت به منظمة اليونسكو وطالبت الجهات المختصة في مصر بضرورة الاهتمام بالآثار الموجودة في القاهرة التاريخية، مهددة بشطبها من قائمة التراث العالمي، ونقلها لقائمة التراث المعرض للخطر، كما عبرت عن قلقها من إنشاء طريق يمر بـ"مدينة الموتى".

عدم تسجيل القبور التي مرت عليها 100 عام في سجلات الآثار إهمال جسيم يستوجب محاسبة المتسببين فيه وما يمكن أن ينجم عن هذا الإهمال من إهدار قطع أثرية وتاريخية ونسيج عمراني قائم من أكثر من 1400 عام. 

أيضاً من ضمن الأمور غير المفهومة عدم حصول الأجهزة التنفيذية على موافقة الجهاز القومي للتنسيق الحضاري قبل إجراء أي تعديل في المناطق التاريخية، على الرغم من إلزامية الحصول على تلك الموافقة، وقد أكدت السيدة سهير حواس، عضو الجهاز القومي للتنسيق الحضاري في تصريحات إعلامية سابقة، عدم وصول أية مخاطبات بخصوص ما يحدث في تلك المقابر. 

هذا الإهمال الرسمي دفع بعض المختصين بالتاريخ نحو تدشين مبادرة (شواهد مصر) لتنظيم المناطق الأثرية في القاهرة التاريخية، والبحث عن الآثار غير المسجلة في السجلات الرسمية وتسليمها للحكومة، ورفعت الحملة في غضون أسابيع 17 طن من المخلفات والقمامة من 11 معلم اثري وأيضا قامت الحملة بتتبع عدد من المقابر المقرر إزالتها وإثبات توافر شروط تسجيلها كاثر وبالفعل تم إنقاذها من الإزالة.

ومن أهم ما توصلت إليه المبادرة هو العثور على قبر كان على وشك الإزالة  يعود عمره إلى أكثر من 1100 عام لسيدة تُدعى "إمامة بنت محمد" اكتشفها المتخصص في علم التراث والآثار مصطفى الصادق، حيث كتب على القبر بالخط الكوفي غير المنقوط عمره 11 قرناً داخل "قرافة الشافعي"، حيث تم تسليمه إلى مفتشي الآثار.

كل هذا بالتزامن مع اهتمام رسمي مفرط للحكومة المصرية في التعامل مع المعابد اليهودية من تجديد وانفاق عشرات الملايين من الدولارات وحضور رسمي بأعلى تمثيل حكومي لافتتاح المعابد بعد الترميم، والتي كان آخرها معبد عزرا، الذي افتتحه رئيس الوزراء مصطفى مدبولي. 

وفي مدينة دمنهور، حيث مكان مقام "أبو حصيرة" المزعوم، الذي كان يستقبل لسنوات وسنوات احتفالات يهودية، ويتم التعامل معه كمعلم أثري، على الرغم من عدم ثبوت حقيقة تستدعي التعامل معه كمعلم مهم، بالإضافة إلى إدراج عدد من مقابر اليهود (وهم أشخاص عاديين ولم يمر على تشييد قبورهم أكثر من 100 عام) ضمن قائمة الآثار في محافظة الإسكندرية. 

وكذلك افتتاح مقابر ليشع ومنشة اليهودية في القاهرة بعد ترميمها بعيداً عن أي مخاطر من تلك التي تواجهها الآثار الحقيقية في قاهرة المعز من قمامة ومخلفات وأخيراً إزالات للآثار نفسها لا للمخلفات والقمامة التي تحيط بها حتى أن بعضها يغرق في بحر مخلفات ولا تظهر منها إلا أجزاء بسيطة تلفت انتباه الناظرين كجوهرة تستغيث. 

نعم التطور ومواكبة العصر والأخذ بكل أسباب النجاح والقضاء على المشاكل المجتمعية لهي ضرورة نشدّ على أيدي القائمين عليها وندعمهم، ولكن هذا أبداً لا يمكن أن يحدث بهدم التاريخ والتعامل معه بدونية، وتبديد تراث إنساني عالمي قائم على مدار مئات السنين.

أتمنى ألا يخيب الرجاء، ويُنتشل هذا الفصل الحي من تاريخ الإنسان والجدران من مصير كهذا، ويضيع جزء من تاريخنا ورفات من صنعوه تحت الحطام ونبقى أمام مشهد كهذا أصناماً نتمتم بالحسرة ونقول بلا نطق "أنه لا تاريخ لذلك الحجر وهذا التراث شفع، ولا عطاء لأصحاب هذه القبور نفع".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

حسين صالح عمار
محامٍ وباحث قانوني
حسين صالح عمار محامٍ وباحث قانوني سابق بوزارة التنمية المحلية، وباحث حقوقي ومساعد باحث في علم الاجتماع السياسي بجامعة أوكسفورد، وعضو مجلس إدارة مستشفى كرداسة الحكومي وعضو فريق تنسق برنامج مساعدة اللاجئين (صوي) بتركيا
تحميل المزيد