مِن بدء الخليقة يبحث الإنسان عن أماكن جديدة ينشد فيها الراحة والهدوء واللقمة الشريفة.. في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي هبطتُ إلى الدوحة، وأنَخْتُ بعيري بمضاربها، فطابت لي الإقامة، والتصق جسدي بترابها، استسلمت لإيقاع حياتها وحكاياتها وأساطيرها، ودخلت مجالسها، وتنسّمت عبير بخورها، وارتشفت القهوة بالهيل والزنجبيل.
فما أجمل أمسيات الصيف الضاجّة بالأفراح ومناسبات الأعراس ورقصات العرضة وبريق السيوف وصليلها! وما أجمل الأكلات الشعبية في المطاعم الصغيرة، في الأزقّة الضيقة بالحواري والأحياء القديمة؟!
لكن..
يظل الحنين إلى وطني هاجساً يؤرّق أمسياتي برغم أسوار الدوحة الآمنة التي تحيط بي من كل جانب، وتمنعني من المغادرة، أو تشدني إليها كلما ابتعدت عنها في الإجازات. هنا في الدوحة تشكّلت شخصيتي الهيفاء، وتصففت غدائرها السوداء، حتى خطّها الشيب، وهناك في الوطن الجريح تشكّلت عجينتي، وتولدت خيوط حكايتي مع الزمان.
ضل الدليب
قامت الحرب اللعينة بين الجيش وقوات الدعم السريع في وقت يحتاج فيه السودانيون إلى التوحد والسلام، وأجبرت الحربُ أكثر من 4 ملايين شخص على الفرار داخل السودان وإلى البلدان المجاورة، بمن فيهم ما يقرب من 700,000 لاجئ وطالب لجوء، سالت الدماء وانتشر الموت في كل مكان ليحصد الأرواح البريئة. في صباح يوم الحرب بدت أمارات الرعب والخوف الشديد في عيون الناس، فنزحوا عن ديارهم وهم صيام، ينشدون الأمن، وتركوا خلفهم ذكرياتٍ جريحة، وأحلاماً نائمة على الوسائد، وأمنيات تتثاءب على مزالج الأبواب تريد الانطلاق. تبدَّل كل شيء، انطفأ الوميض في العيون، وتحوَّل الفرح بقدوم العيد إلى بكاء ونحيب، وآمال ضائعة في صندوق الدنيا.
الكثير من السودانيين المغتربين من أشكالي وقعوا في مصيدة الحنين، وانضم إليهم مؤخراً النازحون بسبب الحرب، ممن تفرَّقوا في مدن الريح والنور والملح. في شهور قليلة لاح على جميع السودانيين الكبَر، وظهرت التجاعيد على وجوههم السمراء، لقد شاخوا قبل أوان الشيخوخة والكهولة، تمر الساعات والأيام وهم يحترقون ويتحرَّقون شوقاً كل لحظة إلى الرحيل والعودة إلى البيت الكبير، للمقيل تحت ظلال شجر الليمون، أو "ضل الدليب" الذي تغنَّى به محمد وردي في أغنية الطير المهاجر، والتي كتبها الشاعر الدبلوماسي الراحل صلاح أحمد إبراهيم.
غريب..
وحيد في غربتو
حيران..
يكفكف دمعتو
حزنان..
يغالب لوعتو
ويتمنى
بس لي أوبتو
طال بيه الحنين
فاض بيه الشجن
الحنين إلى الوطن على الطريقة الإنجليزية
كنت في السابق أضع حنين اللص الخواجة إلى دياره كنموذج للحنين الذي دفع صاحبُه حريتَه ثمناً، لكن بعد الحرب تغير رأيي لما سمعته من قصص مؤلمة ومفجعة، واللص هو رونالد بيغز، بطل سرقة قطار البريد "غلاسكو- لندن" عام1963م، وهي من أكثر الجرائم إثارة في التاريخ البريطاني.
تمكّن بيغز من الفرار بعد إجراء عملية جراحية لتغيير ملامحه، هرب إلى بليجكا وأستراليا وفنزويلا، واستقر به المقام في البرازيل، وكافح للبقاء، ومرَّ بمخاطر عديدة، لكنه لم يستطع مكافحة حنينه إلى داره، وحلم بالحياة كرجل إنجليزي نبيل، وفي مايو 2001، أرسل رونالد بيغز بريداً إلكترونياً إلى رئيس مكافحة الجريمة المنظمة في سكوتلاند قال فيه: "أريد أن أسلم نفسي… أقبضوا عليّ في بوابة المطار، وأنا على استعداد لتقديم نفسي للقانون والعدالة". ورغم صحته المتدهورة بعد إصابته بثلاث جلطات في المخ عاد إلى بلاده وهو في السبعين من عمره: "أنا رجل مريض، أمنيتي الأخيرة أن أذهب إلى الحانة كرجل إنجليزي".
عندما اهتاج هذا اللص ولجَّ الحنين به ترك كلَّ شيء، وعاد إلى الدار وقدم يديه لحارس السجن وللعدالة، ليحقق حلمه الذي داعبه في طفولته. لا ينافسه في الحنين بمفهومه العام- حسب وجهة نظري- إلا عنتر بن شداد، عندما أنشد:
ولقد ذكرتُكِ والرماحُ نواهل … منّي وبيضُ الهندِ تقطرُ من دمي
فوددتُ تقبيلَ السيوفِ لأنَّها … لمعتْ كبارقِ ثغركِ المتبسِّم
يا بلد أصبحت كيف؟!
نحلم جميعاً بعودة ظافرة إلى الوطن رغم الفجيعة والألم وانكسار الندى، كلما هبط مساء يشتد بنا الحنين، وكان يا مكان في قديم الزمان! يظل الحنين ينهش الأرواح حتى بزوغ الفجر، فنغني للبنفسج وللمصابيح والقناديل وخيوط النور عندما تنتشر في عتمة الدروب، ونترقب بين الحين والحين عودة الشمس الجريحة وأسراب الحمام، فالشاعر العراقي عبد القادر الناصري جسَّد حنينه إلى بغداد في هذه الكلمات:
أبدا أحن إلى ربوع دياري … كحنين أعمى للسنى الموار
أشتاق لثم ترابها وأود لو … أحظى بنشق نسيمها المعطار
وطني هو الفردوس بسّام الضحى … حلو الأصائل فاتن الأسحار
قبل سنوات كتب الشاعر السوداني عمر خالد، الطبيب ومقدم البرامج التلفزيونية، أغنية لم أسمع بها، لكن الحنين دفع بالأغنية إلى السطح، وأصبحت بين ليلة وضحاها تتردد على كل الألسنة.
يا بلد أصبحت كيف؟
وكيف عيونك من وجع سهر الليالي
الحائرة في الصيف والخريف
تسلم انت..
من المصاعب.. والمتاعب
والجراحات والنزيف
أصبحت كيف؟
وكيف أصبح النيل.. والنخيل
والبراحات.. والتلال
لقد اشتقنا إلى رائحة تراب الوطن والمشي بشوارعه تحت زخات المطر وارتشاف ماء النيل حتى الثمالة والترنح، وإلى أصوات المؤذنين وهم ينادون الناس أول الليل وأطراف النهار للصلاة في أوقاتها، وأصوات السواقي النائحة في منتصف الليل، عندما تنام البلابل في أفنانها، وتهاجر العنادل، ويحلو السمر تحت ضوء القمر.
لقد اشتقنا لكل شيء، حتى لخصوماتنا وأوجاعنا القديمة!.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.