هناك مشهد شهير في فيلم "أرض النفاق"، المأخوذ عن رواية الكاتب الكبير يوسف السباعي، حيث يُعرض لنا الموظف الحكومي عويجة أفندى وهو يتعامل مع ملف الشنكل ذي الـ44 مليماً، فهو ملف يكتظ بالمكاتبات والأوراق، ويضم أكثر من 6000 توقيع. استغرق ما يعادل 500 يوم عمل، وعندما لامه مديره على تضييع وقت الشركة وإنفاق 400 جنيه من أجل استرجاع 44 مليماً فقط، رد الموظف بكل ثقة: "هذه اللوائح، هكذا ينص القانون".
هذا المشهد يسلط الضوء على منطق البيروقراطية التي قد تكون عائقاً أمام العدالة والفهم السليم للأمور. ودائماً ما تستعيد ذاكرتي ذلك المشهد كلما رأيت نقداً من وجهة نظر دينية لبعض الظواهر مثل ظاهرة العمران في المدينة الحديثة، التي تكبّل تواصل الإنسان مع الطبيعة وتفكك شبكات التضامن الاجتماعي بمبانيها المتعملقة وطرقها السريعة التي لا تصلح إلا للسيارات، وكذلك مثل سربلة خطاب التنمية البشرية بديباجة دينية أو كما يصطلحها الباحث السويسري باتريك هايني بـ"إسلام السوق"، التي تحول الخطاب الديني لبرامج تحفيزية ليس إلا، تعجز عن الاشتباك مع المشاكل المجتمعية بشكل موضوعي، فيصبح الدين مثله مثل أي منتج سلعي ينافس منتجات أخرى، ويتم تسويقه لإرضاء العميل بأي طريقة.
وحيث إن هذه الظواهر وغيرها من أنماط استهلاكية ورأسمالية لم يرد نص صريح بتحريمها، فإن عملية نقدها غالباً ما تواجه بالرفض من قبل كثيرين من المتدينين والدعويين بحجة أن الفقهاء لم يحرموها، وما المانع مادامت حلالاً، فيصبح المنطق البيروقراطي للعويجة أفندي هو السائد لأن "هذه اللوائح، هكذا ينص القانون".
لا يحتاج عاقل لتوضيح كم كانت هذه الحجة شديدة العقم والتهافت حسب أحداث الفيلم، ما يجعلنا نطرح سؤالاً مهماً: هل الدين والشريعة مجرد نصوص قانونية؟ أم أن الدين هو رؤية ذات قيم كبرى وموقف واضح ومميز تجاه الحياة والكون؟ فعلى سبيل المثال، إذ نتناول موضوعاً كالرق، هل هو محرم بنص أم أنه حلال بالمعنى الفقهي؟ وهل منعه يعد مخالفة للدين؟ أم أنه حقيقي لقيم الدين وغاياته الكبرى؟
من هذه الأسئلة ننطلق فيما يخص الجدل الدائر حول تطبيق عمرة البدل، والحجة الأقوى في الترويج لها وهي أن الناس في حاجة لذلك الأمر. أو ليس ذلك تفريغاً لقداسة العبادة وتفريغاً لجوهرها! حيث يتم تسليعها كما أي منتج الأخرى، فيتحول الدين بذلك لأداة لتلبية احتياجات الناس الروحية بطريقة رأسمالية استهلاكية، بل وعمل دعاية لتهييج وتكريس تلك الاحتياجات!!
يمكن إرجاع سبب وجود مثل هذا التدين وانتشاره كنتيجة لتبني خطاب دعوي ساذج متقيد بثنائية عقيمة للحلال والحرام لا تمتلك قدرة عالية على مواجهة المفاهيم الاستهلاكية المراوغة والمركبة، ولذلك نجده يعجز عن مواجهة القيم الرأسمالية على المستوى المعرفي، فيكتفي بمواجهتها على المستوى السلوكي، فنجد الدعاة مثل دون كيشوت يحاربون طواحين الهواء، فنجد بعض الشيوخ يرفضون مصارعة المحترفين فقط لأن المصارعين لا يتقيدون بالزي الشرعي، بينما لا ينشغلون بفكرة تحول الإنسان لكتلة من اللحم، أو فكرة الصراع دون غاية أو هدف، كما أشار المفكر المصري عبد الوهاب محمد المسيري.
وأينما ذهبت ربما تجد العديد من الأمثلة، حيث أتذكر أني في وقت ما شاهدت إحدى القنوات الفضائية المتحدثة باسم تلك الخطابات الدينية تشترط على إحدى الشركات الموزعة لمنتج لعلاج تساقط الشعر، والتي تروج لمنتجها بعبارة تقول (صابون.. يمنع تساقط الشعر ويمنحك شفاءً تاماً خلال 3 أشهر)، حيث اشترطت عليها القناة أن تضيف عبارة (بإذن الله) إلى الإعلان، بحيث يصبح (صابون.. يمنع تساقط الشعر "بإذن الله"، ويمنحك شفاءً تاماً خلال 3 أشهر "بإذن الله")، وهكذا فإن مسؤول القناة قد شعر أنه أدى واجبه وأجبر الشركة على عمل إعلان إسلامي كما يدعي، دون أن ننتبه للمضامين التي تروجها هذه النوعية من المنتجات والرسائل الكامنة بها من قيم استهلاكية وغيرها.
مشكلة هذا النمط من التدين أنه ينتج خطابات شديدة السطحية، فنجد بعض الدعاة المتبنين لتلك الخطابات إذا أراد التحدث عن الأفلام والمسلسلات والفيديو كليب يتحدث عن العري والإباحية والتبرج وما إلى ذلك، دون أن يتطرق إلى الصورة الأكبر، كدور هذه المنتجات الفنية الاستهلاكية في تسطيح الإنسان وتشويه الخارطة الإدراكية لديه عن صورة الإنسان السعيد، الذي لابد أن يعيش في قصر أو فيلا، ويمتلك سيارة حديثة، ويرتدي الماركات العالمية، وتحيطه النساء الحسناوات النحيفات.
هذا النوع من الخطاب يختصر الدين على الفقه وكأنه قوانين بيروقراطية مصمتة، فيجعل وعي الأفراد مثل عويجة أفندى ينصاع لنصوص الشرع/القانون الصريحة والمباشرة دون تفكر، فلا يصنع منه شخصاً أخلاقياً يحركه وازع داخلي، يستطيع أن يفهم ويطور أكواداً أخلاقية تهدف لتحقيق الغايات والقيم الكبرى للدين.
إن الدين أبداً لم يكن مجرد نصوص قانونية نبحث عن الثغرات فيها، فالدين كما أعرفه يخلق شخصاً متواضعاً بسيطاً يستطيع أن يستنتج الغايات الكبرى للدين ويحققها في سلوكه، ليرسم بها رؤية شاملة للكون والحياة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.