خلقت عملية إعادة مقر الحشد الشعبي إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني توتراتٍ خطيرة في كركوك؛ إذ نظَّم أنصار الحشد الشعبي تظاهرات للاحتجاج على هذا الوضع. ومن ناحية أخرى، نظَّم أنصار الحزب الديمقراطي الكردستاني تظاهرات مضادة، واندلعت صدامات. تدخَّلت الحكومة المركزية في الصدامات عسكرياً، لكن نتيجة لهذه التدخلات، فقد 4 متظاهرين أكراد أرواحهم وأُصيب 15 شخصاً. وجرى إعلان حظر التجوال في كركوك، وأُغلِقَ الطريق السريع المتجه شمالاً أمام حركة المرور. يتجاوز الوضع في كركوك تسليم مبنى إلى حزب كردي. ومن أجل فهم هذا الوضع بصورة صحيحة، من الضروري أن نضع في الاعتبار التاريخ الديموغرافي المعقد لكركوك، ووضعيتها الحالية، والطبيعة متعددة الأعراق للعراق، والجهات الفاعلة الأجنبية. دعونا الآن نحاول أن نلقي نظرة على الصورة الأكبر دون أن نتوه في تفاصيل التطورات.
جذور مشكلة كركوك: التغيير الديموغرافي
شهدت كركوك بعضاً من أكثر الأحداث الحاسمة خلال حكم حزب البعث. وهنالك أدلة جدية على أنَّ الإدارة مارست سياسات استيعابية ضد التركمان والأكراد في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، غيَّرت عمليات الترحيل في هذه الفترة البنية الديموغرافية للمدينة بشكل كبير. جعل هذا الوضع الأمور أصعب في العراق، وهي الأمور التي كانت معقدة بالفعل نتيجة بنية البلاد متعددة الأعراق. وحين ننظر إلى التغييرات السنوية في سكان كركوك، يمكننا أن نقرأ هذا الوضع بسهولة.
العِرق | 1957 | 1977 | 1997 |
العرب | 28.2% | 45% | 72% |
109.620 | 218.755 | 544.596 | |
الأكراد | 48.2% | 38% | 21% |
187.593 | 184.875 | 155.861 | |
التركمان | 21.4% | 17% | 7% |
83.371 | 80.347 | 50.099 | |
الآشوريون | 0.4% | – | – |
1.605 | – | – | |
اليهود | 0.03% | – | – |
123 | – | – | |
آخرون | 1.77% | – | 0.3% |
6.545 | – | 2.189 |
المصدر: Liam Anderson-Gareth Stansfield, Crisis in Kirkuk: The Ethnopolitics of Conflict and Compromise, Philadelphia, University of Pennsylvania Press, 2011, s.312.
حين نقرأ الأرقام في الجدول، من الممكن أن نرى أنَّ السكان العرب في كركوك زادوا بعد السبعينات وتجاوزوا السكان الأكراد، في حين استمر السكان الأكراد والتركمان في التراجع. ويوفر هذا بيانات ملموسة حول الادعاءات التي تمت خلال حكم حزب البعث.
وفي الفترة قبل 1957، سيكون من الأدق أن ننظر في وثائق الأرشيف العثماني بشأن كركوك لفهم الوضع في تلك الفترة. وتوفر لنا "السالنامة" (أو الكتب السنوية)، والتي يمكن تفسيرها بأنَّها ملاحظات معلوماتية كانت تُرسَل من الولايات إلى المركز في عهد الدولة العثمانية، معلومات حول كركوك. ففي السطور الأخيرة من آخر فقرة في السالنامة ولاية الموصل بعنوان "كركوك سنجاغنه دائرة معلومات" (معلومات حول سنجق كركوك)، توجد معلومات حول كركوك باللغة التركية القديمة تعود لعام 1907، تقول إنَّ "سكانها ذوو غالبية تركية ويتحدثون التركية". وتسهم حقيقة عدم وجود إشارات للحرب العالمية الأولى آنذاك، وبالتالي عدم وجود أي مخاوف لدى الدولة العثمانية حيال ولاية الموصل، في تفنيد الادعاءات بأنَّ هذه البيانات الموجودة في الوثائق العثمانية هي تحريفات. بالتالي، من الممكن القول إنَّ سكان كركوك كانوا إلى حدٍ كبير من الأتراك في بداية القرن العشرين، لكن على مر السنوات، فاق عدد السكان الأكراد ثم السكان العرب عدد المجموعات العرقية الأخرى.
المصدر: Archival Documents Related to Mosul-Kirkuk (1525-1919), Turkish State Archives General Directorate Publications.
وسيكون من الأدق لفت الانتباه إلى الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وليس الفترة البعثية، باعتبارها النقطة التي تبدأ عندها الأمور تتعقَّد في العراق بالفعل. هذا لأنَّ الغزو الأمريكي للعراق كان تدخلاً منحازاً من جانب قوة أجنبية تماماً وغريبة عن ديناميات المنطقة وتاريخها وديموغرافيتها. فمن أجل تعزيز مصالحها، عبثت الولايات المتحدة بديموغرافية العراق وقوانينه وحدوده وشؤونه الأمنية، ما أدَّى إلى الوضع الفوضوي الحالي في المنطقة. والسبب الأساسي الذي جعل تنظيمات مثل القاعدة وداعش تتجذَّر في المنطقة هو النظام الذي تركته الولايات المتحدة ورائها: خراب كبير لا يتمتع بتوزيع اقتصادي وسياسي يفتقر للعدل.
وضعية كركوك والتداعيات الإقليمية
تُعَد مدينة كركوك، وهي حتى الآن ليست جزءاً من الحكومة المركزية أو حكومة شمال العراق ولها "وضعية مبهمة"، مصدراً لـ40% من نفط العراق. وفي هذا الإطار، يمكننا القول إنَّ لديها موارد باطنية غنية للغاية. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ الموقع الجغرافي للمدينة مهم للغاية أيضاً. وفي ظل هذه الميزات، تخضع كركوك لرقابة كلٍ من إدارة شمال العراق والحكومة المركزية العراقية. ولتركيا أيضاً اهتمام خاص بهذه المنطقة. وتسهم حقيقة أنَّ المنطقة كانت مدينة تركية في تاريخها، وأنَّ الأتراك ما زالوا يعيشون في المنطقة، في إبقاء الاهتمام التركي بكركوك حياً. وفي هذا الإطار، تتواصل تركيا بصورة مستمرة مع "الجبهة التركمانية العراقية" النشطة في السياسة العراقية.
ولا تزال الاستفتاءات المقررة لتحديد وضعية كركوك لم تُجرَ بعد. والسبب الرئيسي لهذا الوضع هو الخصائص الحساسة لكركوك. يمكننا اعتبار مدينة كركوك وزناً ثقيلاً بجانب ميزان ذي كفتين متوازنتين. وبمجرد وضع هذا الوزن في إحدى الكفتين، سيتغيَّر التوازن بصورة كبيرة. ويمكن أن يؤجج هذا صراعاً جديداً في العراق، وهو بلد غير مستقر بالفعل. وحين يُوخَذ الوضع في الجارة سوريا في الاعتبار، نرى أنَّ العراق ليس في بنية يمكنها التعامل مع صراع جديد بهذا الحجم. ولم تستطع الحكومة المركزية ولا إدارة شمال العراق تحقيق الاستقرار السياسي. وحين نضع هذه الحقيقة في الاعتبار، تبدو وضعية كركوك "المبهمة" هي الخيار الأفضل لكل الأطراف.
العامل الآخر الذي يُسهِم في عدم اتخاذ خطوة بشأن كركوك هو القوى الإقليمية. إذ يمكن أن يؤثر الوضع في كركوك بصورة مباشرة على تركيا وإيران. ومن الممكن أن نضع هذه التأثيرات في عدة عناصر.
أولاً، المشكلة الإرهابية التي تنتشر من العراق، إذ تثير الجماعات الإرهابية التي تُعشِّش في العراق غير المستقر قلق كلٍ من تركيا وإيران. وفي هذا الإطار، نرى من حينٍ لآخر عمليات مكافحة الإرهاب التي يقوم بها هذان البلدان تمتد إلى الأراضي العراقية.
وثانياً، هنالك مشكلة إقامة دولة كردية في شمال العراق، فحقيقة وجود جماعة سكانية كردية كبيرة في كلٍ من تركيا وإيران، ووجود حركات انفصالية داخل هذه الجماعة السكانية، تؤدي إلى القلق من امتداد تأثيرات إقامة دولة كردية مستقلة في العراق إلى أراضي البلدين. ويتمثَّل السبب الأكبر وراء فشل استفتاء 2017 في شمال العراق في أنَّ تركيا وإيران اتخذتا موقفاً ضد الاستفتاء وتمكَّنتا من العمل بصورة مشتركة حيال المشكلة.
وأخيراً، من الواضح أنَّ التغييرات الجوهرية في العراق (مثل تحديد وضعية كركوك) سيكون لها تأثير على العلاقات في المنطقة. فنظراً لعلاقات إيران مع الحكومة المركزية ونفوذها الكبير في الحياة السياسية العراقية، خاصةً مع وجود الحشد الشعبي بعد ظهور داعش، من الواضح أنَّ طهران ستتخذ موقفاً جاداً ضد ترك مدينة كركوك لإدارة شمال العراق. ولكل هذه الأسباب، فإنَّ مسألة تحديد وضعية كركوك، التي تُعَد إحدى أهم مناطق العراق، متروكة للمستقبل البعيد.
مستقبل كركوك
بعد تأسيس نظام تسبب في إضعاف تمثيل العرب السُنّة بعد الغزو الأمريكي وإقصاء العرب السُنّة من المشهد السياسي إلى حدٍ ما، يمكننا القول إنَّ هناك صراعاً شيعياً على السلطة في العراق اليوم. فالتيار الصدري، الذي حصل على أكبر عدد من الأصوات في الانتخابات، ليس مشاركاً في الحكومة التي تشكَّلت في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي. هذا لأنَّ النواب الصدريين في البرلمان استقالوا خلال الأزمة السياسية التي وقعت بعد الانتخابات. لذا، يمكننا القول إنَّ هنالك حكومة غير مُمثِّلة لمعظم العراق. وعلى الرغم مما يبدو من أنَّ هذه الأزمة هدأت بتشكيل الحكومة، فإنَّها قد تؤدي إلى صراع داخلي خطير في المستقبل غير البعيد. ومن ناحية أخرى، يُعَد النفوذ الإيراني في العراق عاملاً آخر يؤجج عدم الاستقرار في العراق. وقد وسَّع الحشد الشعبي، الذي تأسس بموجب فتوى من آية الله السيستاني بعد مهاجمة داعش للموصل، منطقة النفوذ الإيراني بصورة أكبر بكثير. ويعاني العراق من مشكلات كثيرة، بما في ذلك الفساد الخطير والنقص في البنية التحتية الحيوية مثل الكهرباء والمياه، والسياسيون المتهمون بكونهم دُمى سياسية، لكنَّه يفتقر إلى قوة الإرادة اللازمة لاتخاذ قرار بشأن كركوك. بالتالي، ومن أجل منع تحول مشكلة كركوك إلى "مشكلة أكبر"، فإنَّ الحفاظ على وضعيتها الحالية يُعَد خياراً أكثر منطقية للعراق والدول الإقليمية الأخرى.
وإذا صحَّت المزاعم بأنَّ البنية الديموغرافية مستمرة في التدهور على حساب العرب والتركمان، فإنَّها تضع كركوك في موقف يمكن أن تواجه فيه أزمات أكبر في قادم السنوات. ما نأمله هو أن نرى العراق يعود إلى الأيام الهادئة حين كان يجري تسوية مشكلات التمثيل السياسي، وإصدار دستور "عراقي". وفي حين أنَّ الشعار الشائع في الشرق الأوسط هو أنَّه "لا حرب بدون مصر، ولا سلام بدون سوريا"، فإنَّني أعتقد أنَّ الشعار الأكثر دقة هو "لا سلام بدون سوريا والعراق". لأنَّ هاتين الدولتين تربطان بين الخليج العربي والبحر المتوسط. وفي هذا السياق، فإنَّ استقرار هاتين الدولتين يمثل أولوية جيوسياسية يحتاجها العالم برمته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.