فيلم Past Lives.. أن تكون عالقاً بالماضي وفي بحر من أسئلة “ماذا لو”؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/09/06 الساعة 13:24 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/09/06 الساعة 13:24 بتوقيت غرينتش
فيلم Past Lives / الشبكات الاجتماعية

تنطلق أحداث هذه القصة في كوريا الجنوبية، حيث تتقاطع مسارات طفلين في سن الثانية عشرة من عمرهما. هاي سونغ، الطفل الهادئ الطباع القليل الكلام الحامل دوماً كرة سلة في يديه عكس بقية أطفال سنه ومدرسته المتيمين بهوى كرة القدم، ونا يونغ، الحالمة السريعة التأثر والبكاء، والراغبة هوساً ودوماً في التفوق والظفر بكل شيء. 

حسب التقسيم الفرويدي لمراحل النمو النفسي الجنسي، فقد دخل الطفلان المرحلة التناسلية التي يرجع خلالها الاهتمام بالجنس المقابل أو الجنس المنجذب نحوه بعد مرور سنوات من الكمون الجنسي، بمعناه الفرويدي لا العامي، المنصرف في تطوير المهارات الحياتية من تعرف على القدرات الفردية ومزاولة الهوايات والاندماج الاجتماعي. أي يمكننا القول إن هناك وعياً كافياً بالذاتية والغيرية يسمح بتكون خيط حب أول رفيع خالص بريء، وشبه ناضج يجمع بينهما، للأسف سيتم فصل وإبعاد أطراف هذا الرابط بسبب قرار والدَي نورا بالهجرة نحو كندا.

قبل الإعلان الشفهي أخبرتنا المخرجة سيلين سونغ بصرياً عن قرار الرحيل، حيث أردفت لقطة تضم جوازات سفر أفراد العائلة مباشرة، بعد مشاركة نا يونغ رغبتها بالزواج من هاي سونغ مع أمها، لقطة رغم قصرها الزمني فإنها وقفت كسدٍّ منيع في وجه حلم الطفلة، وأظهرت بشكل بديع التقاطع بين المُخطَّط له والمتحقق، بين المرغوب فيه والمكتسب. 

هجرة، وفراق، وبعد، وتحول مفاجئ في أحداث في ظاهرها معتادة متكررة وخفيفة الوقع، لكن طياتها تخفي قدرة على شرخ بنية الطفل النفسية، نلاحظ في الفيلم محاولَتي الطفلين لعقد السلام مع ما عصف بهما، نا يونغ بررت الرحيل وترك الواقع الوحيد الذي عرفته بطموحها المشتعل الفتيل منذ الصغر، قائلة إن "الكوريين لا يربحون جائزة نوبل للأدب"، آملة في مستقبل أكثر إشراقاً.

على عكسها، هاي سونغ لم يقدر على استنباط فكرة تخفف قسوة الحدث، فالتجأ لتقبُّل الواقع في صمت، رافضاً نسيان عذوبة ما جمعه يوماً بنا يونغ.

نظراً لأهمية هذه المرحلة من القصة قررت المخرجة تجسيد كل مشهد فيها بطريقة حية مضيئة، مليئة بألوان براقة، باعثة بإحساس من الدفء والاحتضان، إحساس يعطيها طابع الحلم المريح، الذي غالباً ننسى أحداثه لكن نستحضر شعوره، إحساس يعبر تماماً عن طفولة يتذكرها الفرد بحنين ورغبة دفينة في الرجوع. الشيء الذي يتضح بشكل أكبر خلال بقية أحداث الفيلم، حيث نلاحظ تغير القوام البصري بشكل مستمر من نور إلى ظلمة، من نهار إلى ليل، من شمس إلى مطر، عاكساً بذلك الحالة النفسية للشخصيات التي فقدت وبشكل رئيسي الاستقرار النفسي الذي وفّرته هذه المرحلة.

بعد مرور 12 سنة ستتقارب أطراف الرباط من جديد، عن طريق بحث سريع على موقع فيسبوك قامت به نورا، نا يونغ سابقاً، عن صديق طفولتها بعد حديث ليلي أجرته مع أمها، التي تركتها بدورها في كندا، وارتحلت مرة أخرى نحو مدينة الضجيج الدائم والتعدد العرقي، مدينة الفرص المتجددة، المدينة التي يظفر ساكنتها بجائزة نوبل للأدب، مدينة نيويورك. تفاجأت نورا بإيجاد منشور يبحث فيه هاي سونغ عنها، معبراً خلاله عن رغبته في التواصل معها مجدداً، فترسل له رسالة بدورها، مما يطلق العنان لنار أحاسيس كانت خامدة، طفلا الماضي هما شابّا الحاضر، البراءة التي جمعتهما سابقاً لم تختفِ، روحان خالصان في جسد اختلفت وكبرت معالمه. 

فيلم Past Lives

ظلَّ الشابان يتقاسمان أطراف الحديث بشكل مستمر، متحديان غرابة الفعل وبُعد المكان واختلاف الزمن، وفي خضم هذا القرب الإلكتروني وجدت شخصيتنا نفسها تنشرح ببطء، هل هي نورا أم نا يونغ؟ هل هي حاضر شاب يطمح في نيل مجد أضواء المستقبل أم ماض يفتقد طفلة كانت يوماً ولم تعد؟ هل هي يوم عمل أم ليل حنين؟ في تردّد ممتزج بحزم ثاقب، تقرر نورا الابتعاد، مفضلة الصمت ومتبنية حجة الرغبة العقلانية في التركيز على مسارها المهني. ولمرة أخرى كل ما استطاع هاي سونغ فعله هو تقبل القرار بدموع ترفض السماح بهطولها.

مع نهاية هذه المواجهة يبرز الجانب البصري لختام هذا الفصل من حياة نورا. تعبّر المخرجة بشكل متأنٍ عن ذلك مسلطة عدسة الكاميرا على نافذة غرفة نورا، حيث تتسلل أشعة الغروب لتملأ الفضاء، قبل أن تنقلب مباشرةً إلى أشعة الصباح النقية المليئة بعبق أمل يوم جديد.

يأخذنا الفيلم في قفزة أخرى متشابهة المدة مع سابقتها، الآن كل من الطرفين قد بلغا عقده الثالث، لكن بأوضاع متنافرة عن المرات السابقة. نورا أكثر استقراراً معنوياً وعملياً وعلائقياً، تعمل ككاتبة بدوام كامل، وفي علاقة زواج سعيد مع زوجها آرثر، الذي تعرفت عليه في نزل خاص بالكتاب بعد فترة قصيرة من قطع علاقتها بهاي سونغ، وهو كاتب شاب أمريكي الأصل، متفهم، ذو إحساس مرهف، وحزن عميق يسكن عينيه، مكونان علاقة تجمع بين حميمية المشاعر وتشابه التوجه. 

في الجانب المقابل من العالم، هاي سونغ الآن يعمل مهندساً في نفس المدينة التي ترعرع في أزقتها، متسكعاً مع نفس أصدقاء الطفولة الذين صاحبهم، وهو ما تعتبره نورا حياة عادية، واصفةً هاي سونغ لاحقاً في الفيلم "بالكوري الحقيقي".

 تعرّف هاي سونغ بدوره على فتاة أثناء فترة برنامج تبادل لغوي قضاه في الصين، لكن مع مرور الوقت وتداخل ما يبدو كنقد أو إشارة لتعسف التقاليد الكورية، بالإضافة لاصطدام التوقعات الشخصية مع الواقع، أخذت علاقتهما منعطفاً سلبياً انتهى بانتهائها. على عكس نورا، التي تعرضت شخصيتها لصقل مستمر، نلاحظ نوعاً من الاستقرار النفسي لهاي سونغ، هو لم يتغير كثيراً عن ذلك الطفل الهادئ الذي عرفناه في بداية الفيلم. التغيير الحقيقي الذي سيعرفه سيأخذ حيزاً بعد اتخاذه قرار السفر إلى نيويورك. 

المطر محفز للنمو، محتضن للأحزان، محطم للصمت ورفيق في الوحدة. وكانعكاس بصري لهذا الانتقال المادي، والتجلي النفسي الدافع، ومشاعر هاي سونغ المتذبذبة بين زوايا الحزن والاغتراب وخوف المواجهة وجهل مآل اللقاء، قررت المخرجة استعمال المطر، مع موسيقى تصويرية هادئة تدغدغ اللاشعور، لما له من حمولة شاعرية ورمزية ووقع على نفسية المشاهد. 

بعد أكثر من عقدين من الزمن يلتقي أخيراً طرفا الرباط، في يوم مشمس احتفى بهم بنوره، وفي صمت غريب مضحك أحياناً يتبادلان العناق، وحديثاً طويلاً مدته، قليلة كلماته، مشتعلة أحاسيسه. في تلك الليلة تعود نورا لحضن زوجها آرثر، تصف له صديق طفولتها والأحاسيس التي راودتها أثناء اللقاء، وفي مشهد قاربت مدته الست دقائق شارك آرثر دوامة التساؤلات والمخاوف والشكوك، التي أثارها حضور هاي سونغ، في نفسه، مقارناً جمال وتشابك قصة نورا بحب طفولتها مع نمطية وملل قصته هو معها، معتبراً نفسه كذلك الزوج الأمريكي الذي سيكون مانعاً من تحقق قصة الحب المشوقة هذه، ومتسائلاً عن رد فعل نورا إذ التقت بكاتب آخر في ذلك النزل، كاتب يحبها ويساعدها ويستمع بكل اهتمام لها، ومستعد للزواج بها رغم صغر السن، بهدف الاستقرار وحصولها على تأشيرة الإقامة الدائمة. 

في مشهد مشابه، بعد التقاء كل من آرثر وهاي سونغ وخروج زوايا الهرم الثلاث مع بعضهم البعض لتناول العشاء، يبدأ هاي سونغ في طرح سلسلة من الأسئلة من قبيل ما طرحه آرثر: ماذا لو لم يرحل أبوا نورا عن كوريا؟ ماذا لو كبرا مع بعضهما البعض؟ هل كان سيبحث عنها؟ هل كانا سيتواعدان؟ هل كانا سيتزوجان وينجبان أطفالاً؟

"لم أكن أعرف أن حبك لزوجك سيؤلم هكذا" هاي سونغ

لطالما كانت الغيرة سبباً ومحركاً للعديد من الجرائم والأفعال الوحشية التي ارتكبها الإنسان تاريخياً لحل نزاعات كهذه، واستلهم الحكي الشفهي، ثم الرواية، ثم السينما من هذا الإحساس الإنساني المعقّد، المتأرجح بين رغبة التملك الكلي والحب الخالص المعمي بالعديد من الأعمال العالمية. على عكس غيرة عطيل من زوجته ديدمونة في خالدة شكسبير، أو المؤلف أنطونيو سالييري من موزارت في أماديوس (1984)، غيرة هاي سونغ وآرثر من بعضهما البعض تم التعامل معها بشكل حضاري، متزن ومتفهم، هادمين بذلك التصور النمطي في ذاكرة الكثيرين عن ردة الفعل العنيفة للرجال في مواقف كهذه، لم تكن نورا ما يجمع بينهما فقط، بل غيرة واحترام مؤلم، كانا شكّلا حلقة الوصل بينهما. 

في المشهد الختامي يأتي أوان الرحيل، وللمرة الأولى هاي سونغ سيكون الشخص المودع، الشخص المبتعد والمتحرر. أخيراً سيكون قادراً على النظر عبر نافذة السيارة وهي تسير به نحو مستقبل كسر فيه أصفاد ماضٍ تعقبه ظله طيلة حياته. وستكون نورا للمرة الأولى في حياتها المبتعَد والمتخلَّى عنها، فستنهار حينها بالبكاء، وهي تعود بخطى متباطئة نحو الحاضر الذي بنته ولم تتخلى عنه، بينما يبتعد رباط الماضي الذي وصلها بتلك الطفلة الحالمة البريئة الخالية من ثقل القرارات الحياتية.

يسلط الفيلم الضوء على تداخل خيوط الماضي بالحاضر، كيف لفعل مضى أن يشكل حاضراً مُعاشاً ويؤثر على مستقبل آتٍ. فيلم يغوص في بحر الاحتمالات اللامتناهية لسؤال "ماذا لو؟"، ويدعو لتحمل المسؤولية وعقد سلام مع الواقع مهما كانت مرارته واغترابه عما كان مخططاً حصوله. فيلم يدعو للتفكر في قصر الوقت المعطى لنا، لغلق صدوع النفس بالإسمنت المصقول بذهب دموعنا.

"هذا هو المكان الذي انتهى المطاف بي فيه، هذا هو المكان الذي يفترض أن أكون فيه نورا مون". 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

نصر الله علاوي
كاتب مهتم بالفن والسينما
كاتب مهتم بالفن والسينما
تحميل المزيد