تحدثت في مقال سابق عن تميز المجتمعات العربية والشرقية فيما يتعلق بمفهوم الأسرة وقيمها، وذلك عند المقارنة بينها وبين المجتمعات الغربية، التي تشهد تراجعاً واضحاً في هذا الجانب. وقد أشرت إلى أن هذا الأمر ترك آثاراً وانعكاسات لدى المهاجرين والوافدين، الذين وجدوا أنفسهم يعيشون في مجتمعات تختلف كثيراً في هذا الجانب عما ألِفوه وتعودوا عليه.
من الآثار التي تركها هذا الفرق الكبير بين الثقافتين فيما يتعلق بالأسرة والعلاقات بين أفرادها، اتجاه كثير من المهاجرين في مجتمعات الغرب إلى نوع من الانغلاق والتقوقع على أنفسهم، والميل إلى إنشاء تكتلاتهم وتجمعاتهم الخاصة، التي يجدون فيها الألفة والشعور بالأمان، خصوصاً بعد أن تمر عليهم سنوات طويلة من العيش في مجتمعات لا تقيم وزناً كبيراً لهذه الأمور، ولا تنظر لها من المنظور نفسه.
ولكي لا يُفسر كلامي بشكل خاطئ أود أن أؤكد على نقطة مهمة فيما يتعلق بهذا الجانب، حين أتحدث عن مكانة الأسرة وقيمتها لدى المجتمعات العربية والشرقية، وكيف تفوقت في هذا الجانب على نظيرتها الغربية، فأنا أتحدث هنا من منظور ثقافي اجتماعي بحت، فعلى الصعيد الرسمي والحكومي تحظى مؤسسة الأسرة في بلد كألمانيا برعاية وعناية خاصة، متمثلة في عشرات القوانين وحزم الدعم والتشجيع والتمويل، وقد أشرت إلى بعض هذه القوانين في مقالات سابقة، وتكفي الإشارة إلى أن ضريبة الدخل مثلاً التي تفرضها الدولة على كل من يعمل ويكسب أجراً تختلف وتتغير إذا كان الشخص متزوجاً ولديه أطفال، ففي هذه الحالة تقل نسبة الضريبة المقتطعة، ويزيد هذا النقص كلما زاد عدد الأطفال، والجدير بالذكر هنا أن هذا الخصم الضريبي يسري فقط في حالة وجود إثبات زواج حقيقي، بمعنى أن الشركاء الذين يعيشون في مسكن واحد لا يحصلون على مثل هذا التخفيض الضريبي، حتى لو كان لديهم أطفال، بما أنه ليس بينهم عقد زواج مُعترف به.
وهناك في ألمانيا وزارة كاملة تُعرف اختصاراً بـ"وزارة شؤون الأسرة"، واسمها بالكامل هو "وزارة شؤون الأسرة وكبار السن والنساء والأطفال"، ومن مهام هذه الوزارة تقديم الرعاية والدعم للعائلات، وتعزيز عمل منظمات الرعاية الاجتماعية والمؤسسات، التي يتعلق عملها بمجال الأسرة، كما تدعم هذه الوزارة أيضاً حزماً متعددة من الخدمات والمزايا العينية الموجهة إلى الأسر والعائلات والأطفال.
لكن كل هذا الدعم والاهتمام "الرسمي والحكومي" لا يلغي حقيقة أن مفهوم الأسرة من منظور الممارسة الاجتماعية متصدع ومهمل في هذه المجتمعات. ودُور المسنين والعجزة ممتلئة عن آخرها، وهناك نقص حاد في هذا القطاع من ناحية العمالة والتوظيف في عدة بلدان أوروبية، ما يعطي لمحة واضحة عن الوضع القائم فيما يتعلق بهذا الأمر. بينما نادراً ما يحتاج كبار السن في مجتمعاتنا إلى مثل هذه المؤسسات، فالفرق في هذا الجانب كبير بالفعل، صحيح أن العناية بكبار السن أمر شاق ومرهق، وأن الحاجة إلى المساعدة في هذا الجانب، خصوصاً من الناحية الطبية، مطلوبة ومفيدة، فبعض كبار السن يحتاجون بالفعل إلى عناية طبية متخصصة وفحوصات دورية، وإلى من يعطيهم أدوية معينة في أوقات محددة، كل هذا يمكن فهمه، لكن رميهم وتسليم زمام أمورهم بالكامل إلى هذه المؤسسات وإهمالهم من ناحية أسرهم هو أمر محزن بالفعل، خصوصاً أن البعض قد لا يرغب في ذلك، بل ويتمنى مجرد الزيارة من أقاربه.
ثم إذا سلمنا بأنه ليس بمقدور أحد من أفراد الأسرة أن يعتني بهؤلاء بسبب ضغوطات العمل والحياة، وأن الأفضل هو إيداعهم في هذه الأماكن المخصصة لهم، حيث يلقون رعاية متكاملة، لو سلمنا جدلاً بذلك فلماذا- في كثير من الحالات- لا يقوم أفراد الأسرة بزيارة كبار السن هؤلاء بشكل دوري أو حتى متقطع ومن حين لآخر؟ بل إن البعض قد لا يكلف نفسه حتى عناء السؤال عن هؤلاء عن طريق الهاتف.
قارِن هذا بالمجتمعات العربية أو الشرقية التي يُعد فيها وجود أجيال من نفس الأسرة تتشارك نفس المسكن أمراً شائعاً، لكنه غير موجود بالمرة في المجتمعات الغربية، التي تحصر مفهوم الأسرة في إطار ضيق، وحتى هذا الإطار لا يدوم إلا لفترة محددة، ينتهي بعدها دوره ويضمحل.
لذلك كما قلت يتجه كثير من أبناء الجاليات المهاجرة إلى التكتل بحثاً عن الدفء الأسري والعلاقات الحميمة التي تعودوا عليها في مجتمعاتهم، صحيح أن مجتمعاتنا أيضاً لا تخلو من العيوب والسلبيات، وهذا يسري أيضاً على هذه التكتلات التي يتم إنشاؤها في الغربة، لكنها فيما يتعلق بهذا الجانب تشكل لهؤلاء الذين فارقوا أوطانهم واضطروا للعيش بعيداً عنها ما يشبه "الواحة"، وسط صحراء المشاعر الباردة والمتجمدة التي يجدونها في المجتمعات الغربية.
لا يعني هذا أن الجميع داخل هذه التكتلات يعيشون في تناغم ووئام تام، لكن الحاجة الماسة للمشاركة والتواصل والعلاقات الدافئة تجعل الكثيرين مستعدين للتضحية والقبول ببعض السلبيات، مقابل ألا يجد المرء نفسه وحيداً معزولاً عما حوله، يعيش في دائرة رتيبة مغلقة، خالية من التواصل الإنساني الحميم، أو الحياة الاجتماعية النشطة، دائرة مُصمتة بدايتها معروفة ونهايتها في إحدى دُور العجزة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.