تُزعجني للغاية، فكرة ربط الأشخاص العاديين بالنجوم والمشاهير على حد سواء، ويُزعجني أكثر ربط رواتب الموظفين بالميزانيات الخاصة بلاعبي كرة القدم تحديداً.
في كل انتقال مهول نسمع عنه في لعبة كرة القدم؛ سواء كان هذا الانتقال عربياً أو عالمياً، ونُصدم بالمنشورات والتغريدات التي تتحدث عن مقدار ما يتقاضاه اللاعب عبر الثانية والدقيقة، لا يسعني سوى الاشمئزاز من هذا العبث!
لا لشيء أكثر من أن المقارنة لا تصح، وفي محاولة منطقتها سذاجة لا يمكن التغاضي عنها؛ فلا يمكن أن تكون المقارنة عادلة بين الأصل والضعف، ما بالك إذا كانت المقارنة هنا بين الأصل وأضعاف الأصل التي قد تصل إلى 1000 مرة وربما 2000 أو أكثر؟
العاديون في الحياة، من يستيقظون في السادسة والسابعة صباحاً للذهاب إلى أعمالهم ثم العودة في السابعة والثامنة مساء، لا يُمكن مقارنتهم بسهولة هكذا مع لاعبين يتقاضون نفس الراتب الشهري للموظف في ليلة وبعضهم في ساعة ودقائق.
الموظف البسيط ليس مُخيراً بين أن يترك عمله ومغادرته، إلا في حالة أن وصل إليه عرض أفضل مادياً، والعرض الأفضل من الناحية المادية لن يكون كبيراً كما تظن لكن الزيادة فيه ستكون مُفيدة للموظف نفسه ولأسرته في الخلفية.
لاعب الكرة مُخير بين أن يترك ناديه ويختار أي شيء وكل شيء؛ إذا خرج من ناديه يُمكنه بسهولة أن يتعاقد مع نادٍ آخر في ساعات، ويمكنه الذهاب إلى دوريات أخرى براتب أكبر بكثير من الذي يتقاضاه مع ناديه.
كرة القدم كما كل شيء في الحياة؛ تحولت إلى سلعة ربما، تُباع وتُشترى، ولم تكن هذه السلعة مملوكة في السابق للأغنياء دون الفقراء، كونها بالفعل كانت المساحة الوحيدة تقريباً في كل الدول التي تعتمد بشكل أساسي على الموهبة.
رياضة تعتمد على مهارات أساسية: سرعة، مهارة، مجهود بدني رهيب، وهو أمر لا يتمتع به كافة البشر؛ لذا بات من الصعب فصلها على فئة عن فئة، ولا أن تحتكرها شريحة بعينها.
قديماً، كانت كرة القدم إحدى المساحات القليلة التي يمكن أن يلتقي فيها الأغنياء والفقراء. عبر لعب الكرة، يختلط المهمشون من القرى والضواحي بأبناء أصحاب الشركات والطبقات المسيطرة في المجتمع، ولا يفرقهم غير الموهبة.
فأصبحت كرة القدم مع الوقت تسير في مصلحة المهمشين، إذ كانت وسيلة ناجحة للترقي الاجتماعي، حتى في أشد المجتمعات طبقية، فسار أبناء المهمشين، في مختلف بلدان العالم، نجوماً ورموزاً لبلادهم حتى.
لكن دوام الحال من المحال، فكما ذكرنا سابقاً كرة القدم، شيء يحبه الجميع، لذلك ستصبح أكثر من مجرد لعبة، فسيتم سحبها من الفقراء، لتصبح صناعة واستثمار، يسيطر عليها الأغنياء، تدير لهم مليارات الدولارات.
كرة القدم كصناعة
فاليوم، نسمع الأخبار الجنونية حول قيمة الصفقات حالياً، والرواتب الفلكية، والتعاقدات التي لا تحتاج لأكثر من حضور شخصية مرموقة لإنهائها؛ حتى نشعر بغرابة شديدة في الأمر!
ففي صناعة كرة القدم حالياً، لم يعد حتى الإنسان يُعامل على أنه إنسانٌ، بل بات سلعة لها سعرها، سواء المشاهد أو اللاعب، فتطوير أو شراء الأندية وجلب الأموال للبلد لم يعد بهدف تطوير اللعبة لذاتها، بل يقترن بنسبة المشاهدات و المبيعات للقمصان وهكذا..
أما بالنسبة للاعب، أصبح جلبه لنادي عبارة عن مزاداً علنياً، يفوز به الرجل الذي يجلس عاقداً قدميه فوق بعضهما، ويتكلم بثقة مفرطة، فمهما ارتفعت العروض فإنه يستطيع أن يزيد من العروض أكثر وأكثر.
أسلوب التفاوض الحالي لا يتحدث عن اللاعب لأنه إنسان لديه موهبة فريدة ويمتلك مهارات كذا وكذا…، بل يتحدث عن القيمة التسويقية، كقدرة مهولة من الشراء والتنافس بين مستثمرين لا نهتم نحن بأسمائهم، لكننا نهتم بشدة بالأرقام التي يطرحونها لنعلم أن الإنسان بات عديم القيمة!
في الماضي كانت هناك أندية هي التي تتسيد المشهد، كان الوصول إليها صعباً، وكانت الرواتب التي تُمنح فيها تبدو منطقية؛ كونها المُتفردة بجودة لاعبين لا يتواجد مثلهم في أي نادٍ آخر.
في العقد الأخير، أصبحت لعبة كرة القدم مزاداً علنياً بين الدول، نعم، بين الدول وليس الأندية فقط، حتى الخليج العربي دخل على الخط وأثبت للأوروبيين أنه يستطيع التنافس معهم في كل شيء يدّعون إجادته.
فأصبح الخليج العربي يحتكم على أكبر أندية كرة القدم الأوروبية التي لم تكن كذلك في السابق، وبالتبعية أصبحت الأندية المملوكة من الخليج العربي تستطيع التعاقد مع أي لاعب ومهما كانت الصفقات المُناظرة لعروضهم.
لقد خلقوا هذا اللاعب السلعة دون إرادته؛ اللاعب توضع على طاولته حقائب تكتظ بالأموال التي إن عاش عمره كله لن يتقاضى مثلها، يضعونها أمامه ثم يتفاوضون معه وعينه لا تُفارق الحقيبة، تماماً مثل أساليب الضغط العبقرية التي نشاهدها في الأفلام والمسلسلات لإغواء البطل أو أحد أبطال القصة.
بات من الصعب رفض كل هذه المبالغ الفلكية، بات من الصعب التركيز في تطوير المهارة إذا كان الدافع الرئيسي ليس ما يجنيه من ألقاب وإنما من أموال، بات من الصعب البحث عن مجال آخر غير كرة القدم؛ التي بدورها تمنحك ما لا يمنحك إياه مؤهلك التعليمي، ومستواك الثقافي.
لم تعد كرة القدم سلعة في أعين المستثمرين وأصحاب الأموال فقط، بل في أعين مشاهديها ولاعبيها أيضاَ، مما أدى لتهميش العلاقات العاطفية والحالة المقدسة التي كانت تربط بين اللاعب والمشجع والنادي.
فنجد الصحفي والكاتب الإنجليزي أدريان تشيلرز، لديه كتاب اسمه "نحن لا نعرف ماذا نفعل" يتحدث فيه عن خبراته كمراسل وصحفي وكاتب في شؤون كرة القدم.
يحكي فيه عن واحد من أكثر المواقف العبثية التي حدثت له، مع أحد مشجعي نادي ويست بروميتش ألبيون بعد هبوط فريقه للدرجة الثانية الإنجليزية.
كانت ليلة عصيبة على مشجعي ويست بروميتش، التعادل مع أستون فيلا حينها أسقط الفريق إلى الدرجة الثانية، وكان أمراً يصعب تقبله بسهولة هكذا.
المشجع –الذي لم يُفصح تشارليز عن اسمه- قال له إنه تتبع نادي ويست بروميتش لأكثر من 20 عاماً؛ كان فيها خلف ناديه في كل مكان تقريباً، لكن منذ تلك الليلة بدأ الأمر يعود إلى مساره الطبيعي، وحقيقته المنطقية: هؤلاء لا يستحقون البكاء عليهم!
ليلتها، كان الرجل على موعد مع مغادرة الملعب بعد أن أدرك أن ناديه لن يتواجد في أفضل دوري في العالم في الموسم القادم، في الممرات المؤدية إلى غرفة الملابس وخارج إطار الملعب، وبعد أن هدأت الأوضاع؛ اكتشف المشجع أن لاعبي نادي ويست بروميتش، الهابط رسمياً منذ دقائق، يضحكون ويمزحون ومدربهم لا يهتم كأن شيئاً لم يكن!
من هنا، أدرك تماماً أن هؤلاء لا يستحقون البكاء عليهم، وأنه قد قدم لويست بروميتش ما لم يُقدمه ويست بروميتش في المقابل، بل على العكس، قدمت له إدارة النادي هذا النموذج المُشين من لاعبين لا يشعرون بحاجة المشجعين ولا يهتمون بمشاعرهم، وهذه، هذه فقط؛ هي الحقيقة التي لا نُصدقها.
الكرة الإنجليزية مليئة بالأسرار التي تصف لك حقيقة واضحة: لا أحد في صناعة كرة القدم يهتم بك، وكان ديف كيتسون هو أحد أولئك الذين قالوا الحقيقة بصفة مبهمة لكن يكفي أنها الحقيقة وإن تنكرت.
ألّف ديف كيتسون، اللاعب السابق، كتاباً يُعد من الأكثر مبيعاً حول العالم كله في مجال كرة القدم، كتاب اسمه "اللاعب السري" أو بالإنجليزية "The secret Footballer" والذي شرح فيه ديف كيتسون الحقيقة المُبهمة والواضحة، ذكر أسماء بصورة مباشرة وعبّر بالتشبيه عن غيرهم.
من المواقف الطريفة التي يحكيها لنا ديف كيتسون؛ أن زميله في الفريق مارك فيدوكا كان من أفضل لاعبي الفريق في موسمه الأول، لكنه في الموسم الثاني تعرض لحالة كبيرة من هبوط المستوى.
كان الناس ساخطين عليه، وحاولوا الضغط عليه لتحسين مستواه بأي شكل من الأشكال، لكن يبدو أن فيدوكا لم يكن يهتم، إلى اليوم الذي خسر فيه الفريق إحدى المباريات، وكانت ساحة السيارات الخاصة باللاعبين في الجهة المقابلة لمدرج جماهير الفريق.
أحد المشجعين حاول التحدث معه في غياب الأمن، ونصحه بتحسين مستواه والتركيز، لكن رد فيدوكا كان فاتراً للدرجة التي جعلت المشجع يستشيط غضباً ويتحدث معه بنبرة حادة وبصوت أعلى:
– حسِن من مستواك.. أنا أحد أولئك الذين يدفعون راتبك!
التفت إليه فيدوكا وابتسم في وجهه، ثم أخبره الحقيقة التي سيُخبرك بها أي لاعب في ناديك، ورئيس ناديك، وحتى وكيل أعمال اللاعبين:
– أنت تدفع راتبي؟ حسناً يا أخي.. أنت ثري أحمق! حاول أن تستثمر أموالك فيما هو أفضل.
كرة القدم اليوم كصناعة ملك لمن يحتكمون على الأموال؛ التي تجعلهم يتعاقدون مع لاعبين مميزين، التي تجعلهم يحتكرون حقوق البث التلفزي دون منافسة، التي تجعلهم يُديرون كل شيء ويجعلون كل ما يحدث يحدث بإمرتهم.
وما يزعج الأوروبيين اليوم من أسعار صفقات الأندية السعودية، ليس لأن تلك الأندية العربية تدمر جنة كرة القدم كما يدعون، كل ما في الأمر أنه من الصعب على الأوروبيين، تقبل فكرة أن جماعة من العرب سيستطيعون كسر هذه الهيمنة المادية والاستثمارية المُذهلة؛ هيمنة اخترعها فلورنتينو بيريز، المهندس الإسباني الذي كان يثق في أن أية صفقة ستتم لأنه يعرف كيف تتم.
هيمنة خلقها الُوكلاء المزورون لنادي برشلونة والذين تسببوا له في كل هذه القضايا منذ رحيلهم، هيمنة تسبب بها المستثمرون الروس والإنجليز الذين دخلوا عالم كرة القدم في الألفية الحديثة وأصبحت الأموال تُنفق فيها كما الهواء.
ما يحدث من الخليج العربي حالياً قد يكون مزعجاً؛ الأرقام المهولة في كل مكان لا بد من أن تكون مزعجة لمن يُدرك أن الإنسان لا يستحق بأن يُعامل كسلعة، تُباع وتُشترى، لكن الغريب حالياً أن من ابتكروا وحولو كرة القدم للصناعة ميزتهم عن غيرهم من العالم، هُم من يكرهون أن تكون الأموال، الأموال فقط؛ هي الحاكم في كل شيء في العالم، في كرة القدم وخارجها.
حينما أجد بعض اللاعبين يختالون في أنفسهم؛ أريد أن أخبرهم: اهدأ قليلاً يا عزيزي، أنت لا تساوي كل هذه المبالغ؛ هم فقط قادرون على دفعها، ولو فهمت ما أعنيه ستفهم أنك لا تساوي شيئاً!.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.