"الدولة أداة سياسية ولكنها تحتاج إلى أيديولوجيا متمايزة خاصة" ماكس فيبر
"قومية منورة" كان هذا هو العنوان الذي صكه المفكر العربي ساطع الحصري – أو كما يسمونه في الوسط الفكري العربي "فيلسوف القومية العربية" – في مؤلفه المعنون بـ"ما القومية؟". يقول المفكر العراقي علي الوردي في نهاية مؤلفه "منطق ابن خلدون" شارحاً هذه الجملة: نحن اليوم في حاجة إلى قومية منورة من شأنها أن تعتمد في نظرتها إلى الأمور على الموضوعية العلمية لا على التعصب الأعمى.
المراقب اليوم لخطاب الكثير من النخب اليمنية السياسية والثقافية والفكرية والدينية، ربما يرى تنامياً ملحوظاً للمفردات التي تحاول إيجاد وسط ثقافي قومي جامع يدفع نحو رسم مسار نضالي ينطلق من مرجعيات ثقافية قومية، أو ما يمكن تسميته "تيار قومي يمني"، وهي تجربة ليست بالجديدة في الوسط الثقافي والسياسي العربي، كانت بدايتها في نهايات القرن الـ19 متأثرة بالنزعة القومية الغربية، حتى وصلت أوج قوتها في أواسط القرن الـ20.
عربياً؛ لقيت القومية حظها من الإخفاق والفشل حينما تحولت من أيديولوجيا سياسية إلى استخدامها كنزعة عرقية ثقافية منغلقة على نفسها، وهذا الاستخدام يتنافى مع فرص تعميمها عربياً والاستفادة من العوامل المشتركة بين شعوب المنطقة، في ظل وجود تنوع إثني وطائفي مترامٍ. أو من وجهة نظر أخرى برأي عزمي بشارة؛ ساهم العزوف النخبوي العروبي السياسي الذي خلفته ما تسمى "النكسة العربية" في إفساح الساحة السياسية أمام الحركات الإسلامية؛ وهذا مما أفشل القومية في الوسط المجتمعي وبالضرورة في الوسط السياسي.
على الصعيد اليمني لم يكن للأفكار القومية صدى في الماضي القريب، أو لنقُل زخماً قوياً، لكنها أصبحت ما بعد الحوثية قضية وموضع نقاش الأواسط الثقافي اليمنية مؤخراً، أو هي كذلك بحسب تعبير المؤرخ البريطاني ميرسير: "لا تصبح الهوية قضية إلا حينما تكون في أزمة".
لماذا الوعي بالقومية بوصفها أيديولوجيا سياسية لا بوصفها قومية ثقافية، ما الفرق؟
انطلاقاً مما قاله الوردي في العبارة سالفة الذكر، يخطئ اليوم على حد سواء الكثير من الناقدين والمتبنين في فهم مثل هذه الفكرة القديمة الحديثة. على سبيل المثال لا الحصر؛ المتبني لها يرى المجتمع (شعباً) أحادي البنية والتركيب والهوية، ولا يراهم (مواطنين) ذوي أبعاد متعددة، يراها قومية ثقافية لا قومية سياسية، ينطلق نحوها بلا وعي بوصفها نزعة عرقية لا بوصفها أيديولوجيا سياسية. أما الناقد لها فينقدها بوصفها جاهلية شوفينية بدائية منافية للقيم الدينية، معتمداً في تفسيره لهذا الظاهرة على أحكام أثبتت في أوقات عدة عدم موضعيتها وصحتها، لا لشيء إلا لأنها حسب اعتقاده ما قبل إسلامية.
ينطلق أستاذ علم الاجتماع "ديفيد ماك كرون" في مؤلفه (علم اجتماع القومية) في فهم الفروقات بين الوعي بالقومية بوصفها أيديولوجيا سياسية لا بوصفها قومية ثقافية، من خلال التفريق بين (الشعب والمواطنين) إذ يقول: إن النزعة القومية في الغرب كانت سياسية في الأساس – فكان التعريف السائد للناس أنهم: "مواطنون" بينما كانت في الشرق قومية ثقافية فأصبح الناس هم: "الشعب" – وبرأي زميله كوهين أدى الشكل الشرقي إلى الإفراط في تمجيد العمق البدائي والقديم والخصوصيات المتعلقة بتراث "الأمم"، على النقيض من النزعة القومية الغربية والمعايير التي أدت إلى تراجع أصول النزعة القومية إلى مفاهيم مثل الحرية والفردية والعقلانية، بينما تفتقر النزعة القومية الشرقية إلى "الثقة بالذات" وتتميز بــــكونها "بؤرة مركب النقص".
أما لياه جرينفيلد ترى أن الوعي القومي ينمو بوصفه أيديولوجيا سياسية من خلال إدراك مشترك من جانب الناس بكرامتهم كأفراد، وهو الذي بدوره يؤدي إلى الأفكار المتعلقة بالحرية والمساواة السياسية، تلك الأفكار تشكلها القيم الدينية والسياسية التي تجمعت وتركزت على الوعي الفردي، والتي بدورها تشكل الاجتماع القائم على قانون الأرض لا على قانون الدم. ويدلل على صحة ذلك بقوله: إن الانتماء القومي الإنجليزي Englishness لم يتحدد بالأسس على أسس عرقية، وإنما تحقق بواسطة – ومن خلال – القيم السياسية والدينية. أما الحالة الأمريكية عند جرينفيلد فتمثل الاستقلال والجوهر للانتماء القومي عن كل العوامل العرقية والجغرافية، حالة تأكيد لطبيعة هذا الانتماء المفهومي والأيديولوجي.
الثقافة سابقة على القومية.. هذه مسلمة تحتمها العلاقة الوجودية بين الثقافة والقومية، لكن الانطلاق من الثقافة كقومية تفضي إلى النزعة العرقية، وهو ما يعوق تحولها إلى أيديولوجيا سياسية. التمايز الذي يفصل بين النزعة العرقية والقومية التي نميزها في هذا المقال هو ما سماها الحصري "قومية منورة". يرى "بانتون" أن الخلافات التي تستدعي القومية هي سياسية بشكل جوهري، تتحدد من خلال العلاقة بالدولة، يفسر هذه المقولة بقوله: إن الإنجليز والويلزييين والاسكتلنديين، أمم كونت الدولة البريطانية، ليس بوصفهم أقساماً عرقية من أمة بريطانية أو عرق (جنس) بريطاني، بل بوصفها إلارادة سياسية، يُعرف إريكسين النزعة القومية باعتبارها أيديولوجيا سياسية، تتمسك بمبدأ ضرورة أن تتطابق حدود الدولة مع الحدود الثقافية؛ بينما لا تتمسك العرقية بالسيطرة على الدولة، ولذا فإن السُّود في الولايات المتحدة الأمريكية يعرفون أنفسهم بوصفهم جماعة عرقية، لكنهم لم يسعوا إلى أن يطابقوها بين تلك الاختلافات الثقافية وبين الحدود السياسية. ينطبق ما ذكره إريكسين في هذا السياق مع ما تحاول جماعة الحوثي فعله في شمال اليمن، أو كما يحاول المجلس الانتقالي فعله في الجنوب. ولتجاوز هذين القطبين شمالاً وجنوباً يتحتم على الفعل النضالي أن ينطلق من قومية منورة قومية سياسية (قومية المواطنة) لا (قومية العرق).
يرى رينان أنه لكي نفهم النزوع القومي على النحو الصحيح فإننا بحاجة إلى أن نبحث كيف ظهرت إلى الوجود تاريخياً وبأي سبيل تغيرت معانيها عبر الزمن، ولماذا تحظى اليوم بمثل هذه الشرعية الوجدانية العميقة. وأنا أتأمل هذه المقولة، وأنظر كيف تشكل الوعي القومي اليمني في القدم، لا أجد سوى القومية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، المتمثلة في التعاونيات الزراعية والتغلب على ظروف البيئة القاسية، التي شكلتها الأمة المتخيلة التي كونها الضمير المعنوي والإحساس بالمشترك بكل أبعاده السياسية والاجتماعية، لا العرق ولا النسب هو من شكلها. وما تاريخ الصراع في اليمن منذ العام 1918 حتى اليوم، إلا لمحاولة فرض القومية العرقية على الجغرافيا، أو بمعنى آخر إحلال قانون الدم على قانون الأرض.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.