حينما أراد أحدهم أن يصف كيف هو بيدري غونزاليس، اختصر الوصف الصحفي والكاتب جراهام هانتر، بأن بيدري هو من النوعية التي لا تُشبه أبداً لعبة كرة القدم الحالية!
نعم، جسده لا يوحي بذلك، الانطباع الأول عنه سيكون سلبياً بكل تأكيد، جسده النحيف، جواربه المتدلية، تشعر بأنه لاعب من القرن الماضي، الستينيات مثلاً أو الخمسينيات، في مهد كرة القدم تحديداً، إذا كان لنا أن نكون دقيقين.
في مثل هذا التوقيت، منذ قرابة 3 سنوات، كان فريق لاس بالماس يُصارع للبقاء في الدرجة الثانية الإسبانية، بفارق 6 نقاط عن الهبوط للدرجة الثالثة.
كان بيدري حينها من عناصر نادي لاس بالماس التي كانت تُحاول تحقيق المهمة الصعبة، التي كانت في نظرهم أقرب للمستحيل.
لكن كيف؟ كيف وصل بيدري فجأة إلى فريق برشلونة؟ كيف أصبح أساسياً هناك؟ كيف احتفظ به برشلونة ورفض فكرة خروجه لا بالإعارة ولا بالبيع؟ كيف أصبح بيدري أصغر لاعب يصل إلى 50 مباراة في تاريخ نادي برشلونة؟
متى أصبح بيدري أصغر لاعب يُمثل منتخب إسبانيا الأول في تاريخ بطولة اليورو؟ متى أصبح بيدري الأصغر على الإطلاق للمشاركة في أية مباراة إقصائية في تاريخ البطولات الأوروبية؟ ولماذا اعتمد عليه لويس إنريكي رفقة أوناي سيمون وإيمريك لابورت في قوام المنتخب بلا راحة للثلاثي؟
من يشتري بيدري؟!
مثلما يحرم بعض الكشافة المواهب من الوصول إلى مناطق جيدة في بداية مسيرتهم، في المقابل قد يكون هناك بعض المدربين الذين لا يبحثون عن المجد الشخصي، وإنما تمهيد الطريق للمواهب حقاً.
في مسيرة بيدري غونزاليس كان الشخص المُوكل بهذا الاكتشاف العبقري هو بيبي ميل، المدرب الأسبق لنادي لاس بالماس، الذي كان يُدرب بيدري في الدرجة الثانية، وكان يعرف أن هذا النحيل سيصل في يوم من الأيام ويكون الأفضل بين أقران جيله.
بيبي ميل لم يكن مدرباً فحسب، ولكن مُسوقاً لبيدري، عرضه على كل الفرق الإسبانية في الدوري الإسباني الليغا، من ريال مدريد إلى ريال بيتيس وحتى نادي برشلونة.
كانت فكرة بيبي ميل كمن يأتي لك بمشروع ضخم، ثم يُخبرك بأنه يثق في نجاح المشروع بلا رأس مال ولا حتى تخطيط ولا دراسة جدوى؛ كانت الفرق معذورة كون بيبي ميل لا يحمل تاريخاً أو تجارب سابقة تدفعهم للمخاطرة بقبول هذا الرهان.
إنه يعرض لاعباً لم يسبق له أبداً أن لعب في بطولة الليغا الرئيسية، لم يسبق له أن سُلطت عليه أضواء الإعلام ولا أبواق الصحافة، لم يسبق له أبداً أن وقف في مواجهة فريق من الفرق الكُبرى في إسبانيا.
في النطاق الإسباني كان بيبي ميل يطوف على المؤسسات الكُبرى، إلى أن حاول أن يخرج بعرضه خارج البلاد، حتى إنه عرضه على نادي ميلان الإيطالي.
وتعددت الأندية التي عرض عليها بيدري، من ريال مدريد، وميلان، إلى ريال بيتيس، وكان من بينهم برشلونة، الفريق الوحيد الذي اشترى "اليانصيب" حرفياً ومجازاً، حرفياً لأنه لا يعلم ما تحويه البضاعة، ومجازاً لأنه دفع مبلغ 5 ملايين للاعب لم يسبق لأحد أن رآه في مسابقة رئيسية!
وافق برشلونة على دفع مبلغ 5 ملايين يورو لصالح نادي لاس بالماس، وتعاقد مع لاعب دون ضجة إعلامية ولا حتى صخب جماهيري.
في الخلفية كان بيبي ميل يضحك بعد إتمام التعاقد، ليس لأنه قد باع بضاعته ولا يعنيه صدق جودتها أم لا، وإنما لأنه يعرف جيداً أن رهانه الوحيد أصبح أمام فرصة إثبات أنه على هذا القدر من التسويق.
الرفض ربما يكون بداية النجاح
في مثل هذه الأيام، تقريباً في شهر أغسطس/آب عام 2020، وبعد أن تلقى نادي برشلونة الهزيمة التاريخية على يد بايرن ميونيخ في لشبونة، كان النادي يُعلن عن صفقة لاعب شاب اسمه بيدري، قالوا إنهم جلبوه من نادي لاس بالماس.
لم يكن أحد يهتم، هذه هي الحقيقة، بعد أن تتلقى 8 أهداف في مرماك لن تهتم جماهيرك بأن تأتي بخليفة ميسي ولا حتى إنييستا، وكان جمهور برشلونة يُحاول تفادي التوقعات المهولة، والمعتادة على يافعي أكاديمية النادي والمواهب الخارجية.
في الحقيقة، كان بيبي ميل يكذب؛ لأن بيدري سبق له أن تدرب في نادٍ كبير من قبل، بل ومن أكبر أندية إسبانيا وقارة أوروبا كلها، وربما لم يُخبره بيدري بهذا الحديث، أو ربما لم يكن الحديث نفسه مهماً حينها.
حينما كان بيدري أصغر سناً ذهب إلى أكاديمية نادي ريال مدريد، التي تُعرف باسم "الكاستيا"، في فبراير/شباط من عام 2018 تحديداً، في يوم الإثنين الذي وافق اليوم الخامس من ذلك الشهر، كانت أول دعوى رسمية من ريال مدريد للاعب جزر الكناري للتدرب في باحات النادي.
عند وصول بيدري كانت الأجواء ممطرة بشدة، عشب الملعب كان مُبتلاً، فشاءت الأقدار ألا تظهر موهبته ويُرفض في أكاديمية ريال مدريد؛ لكي يُساق فيما بعد لنادي برشلونة، غريم ريال مدريد بالتحديد.
فبعد أيام من محاولة اكتشاف مَن هذا الصبي الذي يأتي من جزر بعيدة عن المدن الرئيسية تأكد الخبر، ريال مدريد لا يعتقد أن هذا الصبي يصلح لحمل اسم ريال مدريد، ولا حتى أي نادٍ آخر.
خرج بيدري من صفوف أكاديمية ريال مدريد بعد فترة معايشة استمرت لأيام فقط، وكان بيبي ميل فاتحاً ذراعيه لاحتضانه، وسائراً به في طُرقات ومدن وأحياء إسبانيا لإثبات أنه يصلح، بل ويصلح حتى للمنتخب الإسباني نفسه.
ميسي مُتيم ببيدري
خلال فترة انحدار برشلونة الأخيرة كان أكثر لاعب فهم أسلوب لعب ميسي وتأقلم معه بسرعة، كان بيدري غونزاليس.
كان يفهم متى سيُمرر ميسي، وأين سيتواجد بعد التمرير، كأنه كان يمتلك عيناً في مؤخرة رأسه تُبصر مكانه!
والهدف التاريخي الذي جعل ميسي يتخطى بيليه؛ كونه أصبح أكثر لاعب يُسجل أهدافاً بقميص نفس الفريق في تاريخ كرة القدم، كان بصناعة سحرية من بيدري أيضاً أمام بلد الوليد، في أرض وملعب الأخير.
لذا، لم يكن غريباً أن ميسي سعيد به، حين حقق الصغير جائزة الفتى الذهبي، وكيف جعلت هذه الجائزة بيدري يرتقي كثيراً من موهبة إلى نجم.
أكثر من مجرد لاعب بالنسبة لهم
سريعاً، وفي الـ17 من عمره، أصبح بيدري لاعباً أساسياً في فريق برشلونة الأول، وتحت قيادة رونالد كومان، ثم تشافي هيرنانديز، وأصبح بيدري لاعباً أساسياً للمنتخب الإسباني الأول تحت قيادة لويس إنريكي ودي لافوينتي.
3 سنوات فحسب هي المدة التي احتاجها بيدري غونزاليس لكي يُثبت لمسؤولي أكاديمية ريال مدريد الكاستيا، بأنه يصلح لحمل لواء أكبر أندية الكرة الأوروبية، وليس فقط دولة إسبانيا.
منذ 3 سنوات، خرج بيدري من مدينة تينريفي، إحدى المدن الساحلية في إسبانيا، والتابعة لجزر الكناري.
حيث تألفت هناك أكبر رابطة لمشجعي نادي برشلونة، الذين يصل عددهم حالياً لحوالي 1200 مشجع، اعتادوا التواجد في المقر الرئيسي لهم والدائم؛ المحل المملوك لجد بيدري غونزاليس سابقاً، ووالده في الوقت الحالي.
بيدري كان فرداً بينهم، يحب برشلونة منذ طفولته، وكان من ضمن المجموعة الرسمية للمدينة، التي غيرت اسمها حالياً من "رابطة مشجعي نادي برشلونة في مدينة تينيريفي" إلى "رابطة مشجعي نادي برشلونة في مدينة تينيريفي- بيدري غونزاليس".
وأصبح اسمه مقترناً بالمُسمى الرسمي للرابطة، المدينة حالياً تمر بأوقات صعبة، ويتم إجلاء عدد كبير من السكان بسبب الطقس، لكن بيدري ما زال يتذكر أهل مدينته، حيث قال إن أبرز إنجازاته أنه بعد أن كان جالساً يُشاهد نادي برشلونة معهم، أصبحت الرابطة تشاهد برشلونة لحبها للنادي، وكذلك لحبها لابن المدينة بيدري غونزاليس.
برشلونة على موعد مع ثلاثية تاريخية: بيدري غونزاليس، جافي، لامين يامال، هي ثلاثية يمكن لها أن تكون حجر الأساس الذي يبني عليه نادي برشلونة مخططه الكامل للعودة إلى واجهة الأندية الكُبرى في قارة أوروبا، مثلما تمكن من استعادة لقب الليغا الإسبانية الموسم الماضي.
في الختام، لم يصف موهبة بيدري أحدٌ بدقة كما فعلها تشافي هيرنانديز، الأسطورة السابق لبرشلونة ومدرب الفريق الحالي، إذ أبدع في وصف بيدري غونزاليس تحديداً في تصريحه:
"عندما يمتلك بيدري الكرة ينخفض معدل ضربات قلبي، مع لاعبين آخرين يرتفع، أنا مقتنع بأنه سيمثل حقبة تاريخية".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.