حسب الباحث السويسري باتريك هايني، الذي يرجع له الفضل في سك مصطلح "إسلام السوق"، الذي يشير إلى نمط جديد من أنماط التدين، نشأ في حقبة التسعينيات من القرن الماضي، يتركز خطابه على الفردانية والخلاص الفردي والسعي للثروة، ويتبنى رؤية التنمية البشرية الأمريكية وأدواتها ومفرداتها، وتغيب عنه السرديات الكبرى للخطاب الإسلامي الكلاسيكي؛ حيث لا تأتي في أولوياته مفاهيم مثل تطبيق الشريعة أو العدالة الاجتماعية أو الهوية، وهو خطاب يتميز بالمرونة ومنفتح بالكامل على الثقافة الرأسمالية الغربية والتوجهات الاستهلاكية والفردانية.
ظهر هذا النمط من التدين، بعد تراجع ملموس للجماعات الإسلامية الكلاسيكية في الساحة المجتمعية، أمام منافسة قوية من دعاة مستقلين تخلصوا من خطابات النضال الثوري، متصالحين إلى حد كبير مع نماذج الحداثة الغربية، هؤلاء الدعاة منشغلون بالأخلاق الفردية، متأثرين بعلوم الإدارة الأمريكية، وكُتّاب التنمية البشرية، وعلى رأسهم الكاتب "ستيفن كوفي" وكتابه الأشهر "العادات السبع للأشخاص الأكثر فاعلية".
يتكرر في خطاب هؤلاء الدعاة أو "المتعهدون الجدد"، كما يسميهم هايني أفكار مثل: حسن إدارة الوقت والفاعلية والنشاط والنجاح وشحذ الإرادة والعمل على جني الثروة، إذ يرون أن المسلم الغني أفضل من المسلم الفقير، كما يرون أن الانفتاح على الغرب فضيلة يجب تنميتها في مواجهة حركات المد والجزر، التي تميز الحديث عن الهوية والبديل الحضاري.
يمكن إرجاع ظهور هذا النمط من التدين المبستر منزوع الدسم، إلى وجود فراغ معرفي كبير عند دعاة وممثلي الخطاب الدعوي الكلاسيكي، الذي كان متقيداً بثنائية صلبة للحلال والحرام أفقدته القدرة على مواجهة القيم والمفاهيم المراوغة والمركّبة للرأسمالية، مما جعلها تحفر مساراتها داخل المجتمعات المسلمة وتستقر فيها بدرجة أكثر استقراراً، وربما ما ساعد في ذلك هو انتشار أفكار مدرسة علم النفس الذاتي، الذي أدى إلى تمحور البشر بشكل عام أكثر حول أنفسهم، مما صنع ما يمكن أن نسمية عبودية الذات، التي تدفع إلى خلق ذوات نرجسية تبحث عن تدين خفيف لا يضيّق عليها بمسؤوليات وواجبات أخلاقية مجتمعية.
وقد وجد الحاضنة الاجتماعية الملائمة، نتيجة تصاعد ديناميكية الحراك الاجتماعي في المجتمع المسلم، من شرق آسيا وحتى المغرب العربي، في فترة ما بعد الاستقلال. تلك الفترة التي أنتجت طبقة برجوازية كومبرادورية، وهي الطبقة التي حققت مكتسبات كبيرة على مستوى المعيشة اليومية والرفاهية، وتميزت ممارساتها بنزعة استهلاكية عالية، وقد تبنت هذه الطبقة ذلك النمط الجديد من التدين، وروجت له وحملت راياته؛ حيث يوفر لها حالة من الرضا وراحة الضمير، وفي الوقت نفسه فإنه يخفض أعباء التدين والالتزام الجماعي والمجتمعي إلى أقصى حد ممكن.
ذلك النوع من التدين ينتج حالة من السيولة، حيث يتفاعل مع معدلات العلمنة المتزايدة للمجتمع وروح الرأسمالية، والقيم البروتستانتية، كالنجاح والتحقق الفردي والسعي للثروة، فيقوم فيها التدين بدور الحامل أو الحاوي أو الغلاف المزخرف الذي يكسو قيم وأفكار وآليات السوق المحركة للمجتمع، دون أي تغيير في المضمون أو المحتوى، فيقدم لنا أفراداً غير قادرين على امتلاك رؤية إسلامية حقيقية وشاملة تجاه الحياة، وعاجزين عن تكوين مرجعية أخلاقية إسلامية متجاوزة، فنجدهم يخضعون للمنطق الحداثي القائم على تعدد الاكواد الأخلاقية بتعدد المجالات.
هنا يصبح إسلام السوق، مثله مثل أي منتج من منتجات السوق يتنافس مع منتجات أخرى، ينبغي أن يتحلى بالمرونة التي تمكنه من المنافسة، فنرى الدعاة الجدد يقومون بالتضحية والتخلي عن العديد من المطالبات الدينية، كالمساواة والعدالة الاجتماعية، فيصبح الخطاب الديني فارغاً من محتواه وجوهره، مهملاً سردياته الكبرى، منتجاً لنا قيماً فردانية أنانية تمجد الخلاص الفردي والسعي للثروة.
مشكلة خطابات وقيم هذا النمط من التدين المعلَّب أنها عرجاء متكئة على رؤى التنمية البشرية الفارغة وأدواتها ومفرداتها، في مقابل تجاهل لقيم الإسلام الحقيقية، فنراها تتجنب الحديث عن الفقراء والمظلومين، بينما تنظر إلى مفاهيم النضال ضد الفساد، والتضحية والإيثار كمفردات بلا معنى ومثالية فارغة.
يصبح بذلك الدين كأي منتج، أولوياته إثارة الإعجاب وليس الإقناع (وهذه هي الحجة الشهيرة للمدافعين عن هذا النمط من التدين، أنه يجذب كثيراً من الشباب)، والتكيف مع قيم السوق والاندماج معها بدلاً من استحضار قيمه الخاصة والتمسك بها. فنجد أننا أمام عملية إعادة تموضع للتدين داخل المنظومة الرأسمالية لتتماشى مع آلياتها ومعاييرها.
وتتجلى الآثار الاجتماعية لإسلام السوق في عدد من النماذج والمظاهر، فعلى سبيل المثال، نجد الأناشيد الإسلامية الجديدة خالية من المسار النضالي الهوياتي، بينما المدارس الإسلامية تعطي شهادات أجنبية. وينطبق الأمر نفسه على الأزياء، فالحجاب الذي كان يعد رمزاً يعكس الحشمة والتواضع والبساطة، ويسعى لإخفاء بدرجة كبيرة، الفوارق الاجتماعية لصالح تشكيل مجتمع أكثر عدالة، أصبح تعبيراً عن الرفاهية والزهو، إذ تم تحويله وتسليعه هو الآخر لخدمة السوق وزيادة الاستهلاك، فنجد حجاباً يحمل شعار شركات الأزياء العالمية، تتغير موضته من موسم لآخر، مشيراً بوضوح إلى المكانة الاجتماعية والقدرة الشرائية لمرتديته.
خلاصة القول إن إسلام السوق ينتج ثقافة في مجتمعاتنا بمفاهيم حديثة عائمة، فهو غير محمَّل بأي مفاهيم أصيلة عن العدالة الاجتماعية وغيرها من مفاهيم التضامن، بل ثقافة تتعاطى مع معايير وآليات العالم كما هو، بدرجة عالية من المرونة، التي تصل لحد السيولة، فنراه قائماً على نموذج تعاقدي مادي، فيه خطابات التشجيع على العبادة والصلاة من أجل نيل النجاح والخلاص الفردي في الحياة، تماماً كمحاضرات التحفيز والتنمية البشرية، في مقابل تغييب الطبيعة الثورية للدين الإسلامي في الأساس، الذي يطالب بعالم أكثر عدالة، لا ليتصالح مع الوضع القائم بسلبياته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.