مصر.. بين قتل الجسد وقتل الروح!

عربي بوست
تم النشر: 2023/09/02 الساعة 11:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/09/02 الساعة 11:47 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية/shutterstock

الواحدة ظهراً يدخل "مالك" محطة مصر في مدينة الإسكندرية أواخر صيف عام ٢٠١٥. يضع قدماً ويجر الأخرى إلى مكتب التذاكر طلب تذكرة القطار التالي لمدينة القاهرة. يستلم التذكرة بالابتسامة ويشكر البائع. بالنسبة له كان العالم فارغاً أو من حوله ليسوا بشراً بل أصناماً، فكانت عقارب الساعة تدور في ساعته فقط. لم يكن هناك من يصف له كيف يدور العالم الحقيقي من حوله في هذه اللحظة، أو من يصف له كيف يبدو هو للبشر من حوله. كان مالك في عالمه الخاص، ليس عالماً جميلاً بل عالم به قضبان حديدية عالية، عالم يحكمه الظلام. 

في لحظة يدرك مالك أن موعد القطار قد حان ليعود لوعيه. يتوجه مالك إلى الرصيف رقم ١٩ وفي خطاه يتذكر الليلة السابقة مع ذلك الرجل المدعو حسين وهو يتلو عليه تعليمات السفر والاحتياطات اللازمة. كانت التعليمات بسيطة للغاية هي حقيبة ظهر يحمل بها بعض المتعلقات الشخصية اللازمة للرحلة التي ستدوم لمدة أيام مثل ملابس خفيفة والمهم أن تكون بأكمام طويلة وغطاء للجسم وبعض الطعام المعلب وغيرها، وكانت تعليمات الاحتياط هي شراء هاتف لا يدعم اتصال الإنترنت مع شريحة هاتف غير مسجلة ورمي الشريحة القديمة وعدم تشغيل الهاتف الذكي بأي حال، وباقي التعليمات كانت عن خط سير الرحلة. كان أهم تحذير هو التعامل بحذر مع أي شخص حتى لو كان يعرفه ولا يخبر أحداً عن حقيقة كل هذا، وعدم إثارة الريبة حوله؛ لأنه إذا اكتشف من هو وموقع وجهته الأخيرة فتلك ستكون آخر لحظات يرى ضياء الشمس فيها.

ينتقل مالك لذكرى أخرى. قبل أسبوع كانت آخر مرة رأى فيها أمه وبعض إخوانه الذين قدموا للإسكندرية وقضاء بعض الساعات التي كان كلهم يرجون أنها ليست الأخيرة للأبد. يتذكر آخر دقائق كانت عبارة عن حضن أمه له مع دعاء يخالطه دموع. يقطع كل هذه الذكريات صوت المذياع في المحطة ينبه بوصول القطار المتوجه لمدينة القاهرة وأنه على الركاب الصعود للقطار.

..

يجلس على الكرسي رقم "١٦ أ"، كان نظام القطار صفين من المقاعد كل صف به زوجان من المقاعد وخلفهم مقعد مفرد وهكذا. اختار مالك الكرسي المفرد بالطبع عندما اشترى التذكرة.

كل شيء على ما يرام وفي لحظة نظر عبر باب القطار ليجد وحوشاً في أشكال بشر دخلوا القطار وبدؤوا بمطالبة الركاب بإظهار هوياتهم، بدأ مالك بمحاولة التحكم بمظهره الخارجي واحتواء رعبه الداخلي بابتسامة على وجهه، بالفعل ساعده ذلك على الإفلات من كثرة أسئلة هؤلاء المفتشين التابعين للأمن أو هؤلاء الوحوش في عينيه. أرجعوا له هويته ليتنهد في ارتياح ويرجع رأسه للخلف، هنا تحرك القطار. لحظات ليجد أن المفتشين عادوا مرة أخرى للمقصورة. هنا جفّ حلقه وتصبب عرقاً ظهر خوفه وارتعاده على وجهه كأنه يغرق في وسط المحيط في الظلام وحيداً. تمالك أنفاسه عندما وجد أنهم لم يعودوا لأجله، إنما عادوا ليجلسوا في بعض المقاعد الفارغة في المقصورة.

ذهب لمنطقة التدخين في القطار ليصرف أنظار المفتشين عنه، حيث كان بالنسبة لمالك ومن هم مثله أن التدخين يصرف أنظار الأمن عنهم. فالأمن يعتبر أنه لا خطر على النظام من مدخن، فالإرهابيون بالنسبة لهم لا يدخنون ولا يحلقون لحاهم. يتعامل كل أفراد الأمن على أن كل معارض للنظام هو إرهابي. لكن على الأقل مالك لم يرَ نفسه كذلك ولو لمرة، فصورة الإرهابي في ذهنه هي لشخص كالجماد قاتل بلا رحمة أو جلاد لا تأتيه نشوته إلا بتعذيب الآخرين، أو يراها كمعناها اللغوي أنه يخيف الجميع، أما هنا فهو المرتعد من شيء لم يفهمه، كان يرى نفسه هو الضحية فكيف يكون إرهابياً.

يشعل مالك السيجارة الأولى وينظر للمرة الأخيرة لأراضي بلده، ويدخل في عالمه من الذكريات. حاول هنا تذكر لحظات جميلة حدثت في هذا البلد، لكن كانت قوة الظلام كالعادة أقوى من الضياء. تذكر لحظات المفترض أنها جميلة لكنها تنتهي بمآسٍ دوماً. كتلك السنوات التي كانت جميلة على مصر بعد ثورة ٢٥ يناير عام ٢٠١١ التي قتل فيها أمن النظام أفضل شباب مصر ثمناً للحرية والأمان والمستقبل الأفضل لهذا الوطن، ليقتل هذا الحلم الجميل انقلاب عسكري في ٢٠١٣ ومن عارض هذا الانقلاب يقتل أو يسجن. يتذكر مالك أصدقاءه الذين سجنهم النظام أو صديقه المقرب الذي قتله رصاص النظام في تظاهرة احتجاجية عام ٢٠١٤ وبكاء والدة صديقه وقهرها على ابنها الذي لم يتجاوز ١٨ عاماً.

في السيجارة الثانية تذكر حاله مع هذا النظام حين رفض الظلم وقرر المقاومة السلمية، تذكر لحظات المطاردة من قوات الأمن كأنه قاتل متسلسل أو مجرم حرب وهو مراهق لم يتجاوز الـ١٧ من عمره. ذهب عقل مالك للحظة اعتقاله بدون أي ذنب إلا أنه طالب بالحياة كبشر. تذكر تفاصيل الستة أشهر التي قضاها في السجن وكيف كان السجانين يعاملونه هو وزملاءه كأنهم أحقر من الحيوانات.

وتلك المرة التي مرض بها داخل السجن وذهب لطبيب السجن الذي لا يرقى حتى لكونه بشراً، رسم عقل مالك ذكرى الطبيب أمامه والطبيب يقول له: "أنت لست مريضاً أنت تدعي المرض وحتى لو كنت مريضاً هذا أفضل بأن تموت ولا تعود للخارج وتدمر وطننا الجميل". ينتهى هذا الذي يدعي أنه طبيب من جملته ليدخل رجل كبير في العمر يعرفه مالك اسمه محمد، محمد كان به كل أمراض الشيخوخة، في لحظة دخول حسن للطبيب ينفجر الطبيب في مساعدة ويقول له: "لماذا أدخلت هذا الكلب الأجرب هنا؟"، ليرد المساعد: "السكر عالي عنده". ليقول مدعي مهنة الطب: "أرجعه ليموت في زنزانته ونريح الدنيا منهم". أحسّ مالك بغضب شديد لتذكر هذه المشاهد من عدم الرحمة والإنسانية حتى أنه نسي كم سيجارة دخن للآن، لكنه علم أنه دخن الكثير عندما أحسّ بألم في رئته. عاد مالك لمقعده وعندما نظر للمفتشين وجدهم على مقاعدهم عاد الرعب لقلبه ليتذكر التحذيرات من حسين الذي حذره من أن القبض عليه ستكون نهايته للأبد.

كان حسين قد قصّ على مالك أنه قبل عام كان هناك رجل مثله قرر الرحيل في الظلام لكن الأمن قبض عليه في آخر محطة للهروب ولا أحد يعلم عنه شيئاً للآن.

تعجب مالك من فلسفة النظام الحالي في مصر لماذا يضيقون الخناق على المعارضين لهم. لماذا لا يدعون من يقرر الرحيل الرحيل في هدوء. لماذا هذا الترهيب والتخويف والعذاب الذي يستمر حتى بعد خروجهم من مصر، فالنظام يطالب الدول التي فرّوا إليها هؤلاء بتسليمهم بحجة أنهم إرهابيون. الغريب أن هؤلاء الذين يدعوهم النظام إرهابيين هم صالحون بالنسبة للدول الأخرى. كأنهم يتوقفون عن كونهم إرهابيين عندما يتركون بلادهم.

هنا يبتسم تعجباً من تصرفات وفلسفة النظام العسكري غير المفهومة لهذا المراهق في عمر المراهقة. يغلق عينه وينام ويحلم بأحلام جميلة متخيلاً حياته بعد نجاته من بطش النظام وتخلط هذه الأحلام كوابيس. حالة الحلم هذه هي حالة مالك الطبيعة في الواقع أيضاً كل شيء مختلط خوف وفرح وحزن وغضب.

..

اقترب رجل ما من مالك ليوقظه من نومه، استيقظ مالك فزعاً لدرجة أن الرجل ضحك وقال له: "أنت هربان أم ماذا أنا صحيتك عشان وصلنا القاهرة". ابتسم مالك بذعر وقال: لا يا سيدي لست هارباً لكن شكراً.

خرج مالك لمحطة رمسيس في القاهرة وتأمل في سقفها العالي ثم نظر في الساعة وجدها تقترب من السابعة. قرر الخروج ورؤية القاهرة للمرة الأخيرة وكيف تبدو في الليل. خرج وكان يتمشى بحذر حول المحطة، هذا الحذر لم يكن خوفاً من الأمن، بل كان مالك يسجل بعينه آخر مشاهد وصور لمصر فأرادها بأعلى دقة ممكنة.

قرر مالك تجربة للمرة الأخيرة طعام الشارع المصري بعد نصيحة من صوت داخل رأسه. قال الصوت: "اللعنة على كل شيء يجب أن تجازف ولو قليلاً، أيعقل أن هؤلاء الأوغاد سجنوا حتى عقلك. هم لا يراقبونك في كل لحظة، المهم أن تكون حذراً وليس أن تكون مرتاباً من كل شيء حولك. بعض الطعام الأخير لن يضر".

عاد مالك مرة أخرى واشترى تذكرة لمدينة قنا ليكمل رحلته. بعد شراء التذكرة لاحظ مالك محلاً لبيع الكتب بالقرب من رصيف الانتظار، عاد الرفيق القديم في عقل مالك، قادته رائحة الكتب للداخل. على عجلة اشترى مالك قصة من سلسلة "رجل المستحيل" للكاتب المصري نبيل فاروق. "رجل المستحيل هي قصة عن مغامرات عميل مخابرات مصري، يمكن القول إنه جيمس بوند المصري".

في منتصف الليل صعد مالك للقطار، واختار أيضاً مقعد رقم ١٦ كأنه رقم حظه. لكن هذه المرة كان مالك مرتاحاً في الأغلب بسبب هواء القاهرة كان مخدراً جعله يذهب للنوم في الحال فالرحلة طويلة حوالي ٨ ساعات للوصول.

في الحقيقة لم يكن مرتاحاً لكنه كان مرهقاً ولا طاقة عنده للخوف أو القلق في تلك اللحظات في رأسه كان ذلك الصوت يخبره: "حتى لو قبضوا عليّ لا يهم الوضع أصبح مرهقاً ولا أقوى على الهرب منهم أو الكذب عليهم. لا قيمة للحياة أصلاً لا تتمسك بها لهذا الحد، في النهاية سأموت، لا بل كلنا سنموت. لا أفهم لماذا كل هذا العناء وكلنا نعرف النهاية لماذا أنا…..؟". لم يكمل ذلك الصوت لأن مالك نام بالفعل. لكن لا مشكلة فهذا الصوت أصبح رفيق مالك الجديد الذي لن يدعه أبداً. أصبح الصوت هو سجانه الجديد.

استقيظ للمرة الأخيرة في مصر، ونظر عبر النافذة ليرى الشروق الجميل وأشعة الشمس تتخلل الأراضي الزراعية في صعيد مصر. دقائق ووقف القطار رأى مالك اللوحة المكتوب عليها "محافظة قنا". أخبره الصوت هنا: "هذه آخر محطة لك في مصر وهذه آخر صورة عن شكل الحياة في مصر، بعد الآن لن تعود هنا، لن تعود كما أنت الآن، انس من أنت بقدر ما تستطيع، من هذه اللحظة ستفقد كل نور في حياتك ولن يكون في النهاية إلا أنت وأنا".

خرج مالك وذهب ليكمل رحلته هرباً من مصر للسودان عن طريق الصحراء. صدق ذلك الصوت، تغير مالك ويتغير في كل لحظة ويزداد الظلام حوله ويبقى هو والصوت.

تنقل من بلد لآخر ومن مدينة لأخرى ولم يجد ضالته. دوماً ما كان وسيكون غريباً للأبد بين كل الناس حتى بين أهله تغير كل شيء. في النهاية، أصبح الصوت هو الرفيق الوحيد.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

معاذ الخطيب
كاتب ومدون مصري
كاتب ومدون مصري
تحميل المزيد