"آخر الرجال المحترمين" هو فيلم سينمائي أُنتج عام 1984، بطله أستاذ اللغة العربية "فرجاني"، الذي يكلفه ناظر المدرسة بمسؤولية اصطحاب عدد من الطلبة في رحلة مدرسية من إحدى قرى صعيد مصر إلى مدينة القاهرة، وأثناء الرحلة وحين تواجدهم في حديقة الحيوان يتم اختطاف "نسمة"، إحدى الطالبات، من قبل سيدة فقدت ابنتها بحادث مؤلم، فيبدأ فرجاني البحث عن الفتاة بكل ما لديه من قوة، ويعتبر ما حدث مصيبة كبيرة بضياع الطفلة، وأن هنالك روحاً إنسانية فُقدت، وإذ به يصطدم بالواقع لعدم اهتمام الجهات الرسمية بضياع الطفلة، مبررين ذلك بأن هنالك عشرات الأطفال يُفقدون يومياً، لكن ذلك لم يحده عن البحث، فيبدأ بنفسه رحلة بحث عن الطفلة.
اهتمام فرجاني بالبحث عن الطفلة وتأثره الكبير بضياعها يساعده في التعرف على أصحاب العصابات الإجرامية وعاملي النظافة في تلك المنطقة لمساعدته في البحث عن الفتاة، حتى يجدوا خيطاً يدلهم إلى مكان وجود الفتاة، فتعود الطفلة لعائلتها بعد تعاون الجميع، وفي آخر مشهد يقف فرجاني وحده، ويتحدث مع نفسه قائلاً: "الإنسان هو أصل الحضارات، والخير هو الأصل فيه، والشر دخيل عليه، فالحياة ليست أبيض أو أسود، وإنما هي مزيج منهما ينتج اللون الرمادي"، ويكمل مبتسماً: "لازم تعيد حساباتك يا فرجاني".
لقد انشغل الفلاسفة منذ الأزل والعلماء إلى هذه اللحظة بمسألة ثنائية الخير والشر في الطبيعة البشرية، فهناك فريق رأى أن الإنسان مجبول على الخير، في حين رأى الفريق الآخر أنه ميال للشر.
قد يجول في ذهن القارئ أن فرجاني هو شخصية وهمية غير حقيقية، تشكلت في ذهن الكاتب، وأنه شخصية مثالية لحد كبير، لديه قيم يؤمن بها ويعتز بها وليس من السهل التنازل عن مبادئه وبما يؤمن؛ قد تتشكل الشخصية في الأدب المكتوب لتحمل فكرة معينة من وجهة نظر الكاتب، وجاءت هنا الفكرة مفادها أنك كي تكون شخصاً محترماً يجب أن تكون لديك قيم ومبادئ ثابتة تؤمن بها وتقاتل من أجلها، وأن تعيشها بكل حواسك وجوارحك، تتمثل القيم لأستاذ اللغة العربية هنا في حبه للمعرفة والقراءة، واعتزازه بلغته العربية وانتمائه لحضارته، وأنه يؤمن بقيمة الإنسان وحفظ كرامته الإنسانية.
قد تختلف القيم من شخص لآخر، فلدى المعلم برغوثي في عزبة الغجر الذي لجأ إليه فرجاني للبحث عن الطفلة قيم أيضاً يحكم بها المجرمين واللصوص داخل العزبة يمكن أن يسرق ليعيش، ولكنه لا يختطف الأطفال وقد أصدر قوانين بعدم سرقة أي موظف حكومي لسوء الأوضاع الاقتصادي.
إذاً فكل إنسان لديه قيمه التي يؤمن بها، من المعلم وحتى اللص، من الأشرار حتى الأخيار، فمن أين تأتي هذه القيم؟ وكيف يمكن استكشاف منبعها؟ وماذا لو كانت قيمك دنيئة وشريرة؟ هل يمكن تغييرها؟
جاءت المدرسة المعرفية السلوكية في علم النفس لتبحث عن هذه القيم (القيم الجوهرية والوسيطة) من خلال نموذج يدعى "إعادة البناء المعرفي" يطلب المرشد من المسترشد أن يدوّن المواقف التي تحدث معه، وأن يرصد الأفكار التلقائية الناتجة عن تلك المواقف وما يرافقها من مشاعر وسلوك، ومن خلال عملية التدوين والرصد يمكن استكشاف قيمك الجوهرية المغروزة داخلك منذ الطفولة وتعديلها وتقويمها بعد التعرف عليها والاعتراف بها وفهمها وإدراكها نموذج إعادة البناء المعرفي تعلمه بمساعدة مرشدك النفسي.
ويمكن قياس مدى انسجام هذه القيم مع الواقع الذي تنتمي إليه، فكلما توافقت قيمنا مع واقعنا يحدث التوافق النفس.
عُرض فيلم "آخر الرجال المحترمين" في فترة الثمانينيات من القرن الماضي، حيث لقبت تلك الفترة بأفلام المقاولات التي تهدف الى الربح التجاري، دون النظر الى جودة وقيمة العمل الفني، في حين جاء وأضاف هذا الفيلم قيمة فكرية تتمثل في التخلي عن الجمود والقطعية في الحكم على الأمور وبأنه يجب البحث دائماً عن الحقيقية كما هي مجردة؛ لأن الحقيقة تستطيع الفصل بين الشر والخير، وباختصار علينا جرد أفكارنا بشكل مستمر ودوري؛ تماشياً مع ما استنتجه وتوصل إليه مدرس اللغة العربية بعد ما حدث معه قائلاً "لازم تعيد حساباتك يا فرجاني".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.