في إعلان يبدو غريباً ومفاجئاً للكثير، أُزيح الستار يوم الأحد، 27 أغسطس 2023 عن اتصالات واجتماع رسمي عُقد على الأرجح قبل ذلك بأسبوع بين وزير خارجية العدو الإسرائيلي ونظيرته الليبية نجلاء المنقوش، في العاصمة روما. والكشف عن الاجتماع جاء كالعادة من قبل الجانب الإسرائيلي.
ففي بلد يعتمد القانون رقم 62 الصادر عام 1957، الذي يحظر على كل ليبي طبيعي أو اعتباري التعامل مع أي طرف إسرائيلي، مهما كان شكله أو وضعه! تُصدم جماهيره باجتماع ممثلة الرسمية في الخارج مع إسرائيل، وإتفاقها معها على تعميق علاقاتهما التاريخية، ودراسة إمكانيات التعاون بينهما! وعلى غير العادة جاءت ردود الفعل على الخبر أهم من الخبر في حدِّ ذاته، وكانت أهمها:
موقف الحكومة الليبية
لا أدري هل نبكي أو نضحك من حالة العجز والعبث، التي تعيشها هذه الحكومة التي يُنتظر منها قيادة سفينة الشعب الليبي إلى بر الاستقرار والأمان الذي يفتقدهما منذ أكثر من عقد، فقد ظهر أن رئيسها "الدبيبة" تفاجأ مثله مثل أي مواطن بسيط بالواقعة، وتبين وكأنه اطلع على الحدث وهو يشاهد الأخبار على التلفاز، وهذا الهوان يمكن تفسيره بأحد احتمالين:
إما أن "الدبيبة" لم يكن يعلم فعلاً باتصالات وزيرة خارجيته، وهنا يظهر أن "المنقوش" (وهي المولودة بلندن، والحاملة للجنسية البريطانية) لديها حسابات وتعمل لأجندات لا علاقة لها بمصالح الشعب الذي تتحدث باسمه ولا حتى سياسة الحكومة التي تمثلها، وهنا تطرح مشكلة اختراق هذه الحكومة وغباء من يدعمها ممن ثاروا لتحرير بلدهم.
وإما أن "الدبيبة" كان على علم بما تم، وهو من صميم برنامج حكومته، وإنكاره يدخل في إطار سياسة إنقاذ نفسه ومشروعه وفق منطق "لا بأس بأن نضحي بالجزء لإنقاذ الكل.." ويُعضد هذا الطرح تهريب "المنقوش" وإعادتها إلى بلدها الأم (بعد انكشاف تغطيتها..).
ويعلم "الدبيبة" ومن يخطط له أن اللجوء إلى الإنكار وإبداء الدهشة، ولا بأس ببعض التصريحات النارية والعنتريات الكاذبة، كافية لتهدئة الجمع وإعادة اطمئنان الناس لرئيسهم وحكومته مرة أخرى، وهذا ما حدث فعلاً حتى لحظة كتابة هذه السطور!
موقف الولايات المتحدة
الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً استنكر على محميته المدللة "إسرائيل" التسرع في كشف مساعي التطبيع الذي أحرج شركاءهم وكشفهم أمام الرأي العام الليبي من جهة، ولما يشكله من خطر على المسعى وإمكانية أن يفسد الطبخة أصلاً من جهة ثانية، كما تسبب في إهدار المجهودات المضنية، التي بذلتها المخابرات الأمريكية منذ سنوات، وأوضحت أنها كانت تفضّل أن يتم الكشف عنها بعد تثبيت أقدام شركائهم في السلطة، أي بعد الانتخابات.
موقف الشعب الليبي
خرج في مظاهرات منددة ورافضة للتطبيع، ما دفع الحكومة إلى الانقلاب تماماً والإضرار لإظهار رفضها المطلق لما قامت به المنقوش، لكن يبقى الشعب الليبي كباقي الشعوب العربية، على الرغم من قوته التي لا ،مغلوباً على أمره لأنه غير مؤطر سياسياً، ولا يملك المؤسسات اللازمة للتحرك، وبالتالي ففورة غضبه هذه سيتم العمل على صرفها بحيث لا تؤثر على الحكومة واستقرارها ولا على توازنات المستفيدين من الوضع الحالي عموماً برفع شعار الولاء للقبيلة والتذكير بشعار التخدير التاريخي "ليس بالإمكان أفضل مما عليه الوضع الآن".
إثارة فزاعة المخاوف الأمنية
1- حلف التطبيع والخيانة: بعد نجاحهم في المشرق بمسارعة سلطة الاستبداد للاستقواء وإظهار الولاء للغرب عبر محاولة إرضاء العدو الإسرائيلي تحت عنوان التطبيع، ومنهم حتى من بالغ في مزايداته، وبشّر بدين جديد يجمعه وإخوانه من حفدة الخنازير والقردة، سموه بـ"الإبراهيمية الجديدة"، انتقلت المخابرات الغربية إلى العمل في غرب عالمنا الإسلامي محاولة استدراج حكامها إلى رفع نفس الشعار، مستغلين معاناتهم من نفس الخلل البنيوي، وهي افتقاد هذه السلطة للشرعية الشعبية، وإن نجحوا في جر ملك المغرب لفتح المنطقة والتحالف مع العدو، فقد واجهوا مقاومة شديدة تقودها الجزائر أفشلت مشاريعهم ودفعتهم لتغيير خططهم، وها هو تحرك "المنقوش" يكشف عن جزء من خطتهم التي تهدف إلى محاصرة الجزائر وإحاطتها بجيران يحملون صفة جديدة عنوانها 'أصدقاء إسرائيل'، وبالرغم من فشل أقدم تجارب الخيانة باسم التطبيع في تحقيق الأهداف التي بشرت بها، فإن سلطة الاستبداد لم تتعظ. وحتى لا يكون كلامنا عاطفياً نورد بعض الخطايا التي تميز هذا الحلف:
– التوهم بوجود مصلحة حقيقية كلما سقط حكامنا في فخ الخيانة بشروا بمصالح وأهداف كبرى سيجنونها تعود بالفائدة والرخاء على الشعوب، نقول لهؤلاء وأولئك ما تدّعونه سراب وأوهام، فلو كانت هناك أدنى مصلحة لظهرت آثار نعمتها على مصر، ثم الأردن، بصفتهما أول المطبّعين على الترتيب، وأقدمهم في مسار الخيانة، وحتى 'سلطة أوسلو' التي بشرت بتحرير الأرض وإقامة دولة فلسطين وتحويل غزة إلى "هونغ هونغ" جديدة عبر الكفاح بالتطبيع والخيانة أصبحت موظفة لدى الاحتلال مقابل عملها كحاجز أمني يحميه من أحرار المقاومة وضرباتها، وأقوى مثال نجده في حالة ملك المغرب الذي يحمل صفة "رئيس لجنة القدس" والذي قايض الاعتراف باحتلال العدو لفلسطين بوعد من رئيس أمريكا السابق "ترامب" بالاعتراف باحتلاله للصحراء الغربية، فمن جهة اعترافه ليس قراراً دولياً ولا أممياً ملزماً، ولا هو قادر على تغيير كل معطيات المعادلة التي تحكم القضية من جهة ثانية، فضلاً عن أنه غير مضمون فها هو وزير الخارجية الأمريكي الحالي "بلينكن" يؤكد في آخر تصريحاته دعم أمريكا للمسار الأممي لحل قضية الشعب الصحراوي.
سوء تكييف القضية الفلسطينية: بحيث تبسط سلطة الاستبداد الصراع على أنه 'صراع حدود' يمكن أن نجد له حلاً توافقياً يناسب كل الأطراف، وهذا ما ظهر من قبول الجامعة العربية بقرارات التقسيم بعد رفضها المبدئي له، ثم استدراجها حتى طرحت ماعُرف بمبادرة الملك 'عبد الله للسلام' في 2002، وها هي تتآكل وحدتها وينفرط عقدها، الواحدة تلو الأخرى، باسم التطبيع وتحت عنوان "إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية"، متغافلين أو متجاهلين طبيعة العدو وحقيقته ككيان غُرس في قلب الأمة لتفتيتها ومحاولة منعها من النهوض مرة أخرى ، فالتكييف الحقيقي أنه 'صراع وجود' ومن هنا لا يستقيم التحالف مع العدو ثم الادعاء أن ذلك لن يضر القضية الفلسطينية بل هناك من زايد بشطط بالغ بادعائه أن خيانته ستخدم القضية!، فكيف تسعى لإقامة علاقات "طبيعية" مع احتلال يتعامل معك بخلفية عقدية ملخصها "أنك خُلقت لِيستعْبدك"؟!
-أنظمة مفلسة تبحث عن الشرعية في غير موضعها: لو نراجع كل السلطات التي هرولت للخيانة باسم التطبيع منذ السبعينيات إلى اليوم نجد دوافعها بصفة عامة هي: رغبة في تثبيت أقدامها في الحكم ومحاولة امتلاك أوراق قوية لمجابهة التحديات داخلية كانت أم خارجية وإيجاد الحل السحري لمشاكل الاستقرار والتنمية.
ولو أخدنا المحاولة الليبية الأخيرة كنموذج لوجدنا أن كلاً من 'الدبيبة' في طرابلس و'حفتر' في بنغازي في ظل تكالبهما على السلطة، ومن ثم السيطرة على مقدرات الشعب الليبي طرقا بوابة 'التطبيع' أملاً في ترجيح واشنطن لكفة أحدهما طبعاً بمقياس الأكثر خيانة وانبطاحاً!
2- العامل الجديد: بخلاف الخيانات السابقة التي قُمعت فيها الشعوب ولم تُشاور ولم يُسمح لها حتى بالتعبير عن رأيها، بل منهم من حاول تزييف الحقائق وتغطية نور الشمس بتزييف دعم الشعوب لمسار الخيانة في مسرحيات سمجة ظهرت خاصة على قنوات مملكتي الإمارات والبحرين، برز مع مسعى الخيانة التي قادته المتنورة عامل لم يحسب حسابه، لأنه متجاوز في العادة وهو العامل الشعبي صاحب الأرض والعرض ومرجع الشرعية الذي باسمه تتفاوض "المنقوش" ويحكم "الدبيبة" والذي فاجأ الكل وأفشل طبختهم بموقفه الحازم وتجلى ذلك في:
-هروب المتنورة ممثلة مصالح الغرب في ليبيا، وسقوط خيار التطبيع بعدما كان قاب قوسين أو أدنى.
-لوم وعتاب بين عصابة الغرب المنافق وتحسرهم على التسرع في الافتخار بالنتيجة.
-الخوف والهلع الذي تعيشه سلطات التطبيع في الدول العربية خوفاً من انتقال تمرد الشعب الليبي إلى شعوبها.
وأخيراً نقول إن حرب الغرب المنافق لن تتوقف؛ لأنها حرب عقدية تتغير صورها ووسائلها، لكن هدفها واحد وهو تدمير الأمة وضمان عدم انطلاقها من جديد والتطبيع كصورة حديثة من صور الخيانة والاستكانة للعدو يمكن وقفه وتجاوز آثاره لو تعطى الأولوية لمحاربة الاستبداد كهدف عام، فهو داؤنا العضال الحقيقي فحكام متسلطون يفتقدون للشرعية من السهل ابتزازهم، ومن ثم استدراجهم لأنهم في وضع قلق يحسبون كل صيحة عليهم، ومرحلياً وجب:
١-التركيز على السعي لتأطير المجتمع وتوعيته بقوته، ومن ثم هندسة غضبه وتوجيه طاقاته غير المحدودة لتحريره وبناء مستقبله.
٢-تحييد عملاء الغرب ببلداننا، وخاصة المتنورين منهم المتعالين الذين يحتقرون قيمنا ويسفهون معتقداتنا، فبأي منطق يُسلم بموجبه ثوار ليبيا الأحرار منصباً خطيراً ومفتاحياً كوزارة الخارجية لعميلة بريطانية لتجرهم إلى الخيانة بمباركة مستعمرهم القديم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.