من الممكن أن أحسب لك عدد المرات التي ذهبت فيها إلى القاهرة قبل دخولي الجامعة، وهي مرات قليلة معدودة جداً، لا تتجاوز أصابع الكف الواحد، رغم ذلك كنت أعرف المدينة جيداً، فقط لكوني أعرف نجيب محفوظ.
بدأت مشواري مع نجيب محفوظ من خلال قراءتي لروايته "أولاد حارتنا". كان ذلك في مرحلة تمردي الأولى. وللحق أقول، لم تعجبني الرواية! أي فضاءات للسرد ابتكرها نجيب في أولاد حارتنا؟! بالطبع كنت صغيراً آنذاك، غراً في الثانوية مشغولاً بدراستي، لم أكن أدري ما معنى فضاءات السرد أصلاً؟! لكني كنت أشعر أنه لم يقدّم جديداً، بل كانت هذه حكايات قديمة مألوفة يمكن للطفل حتى أن يرويها لك بسهولة، وكان هذا الانطباع الذي تركته الرواية في ذهني في المرة الأولى.
أما عن نسختي من "الحرافيش"فقديمة مهلهلة، أستجدي ذاكرتي أن تسعفني بمناسبة اقتنائها، لكن بلا فائدة، لا أتذكر، في "الحرافيش" تقربت إلى نجيب محفوظ حينها، وعوالمه المسحورة، وحاراته، وفتواته، أحببته، ولا تزال "الحرافيش" عندي في طليعة الأعمال التي أحبها.
بعد الحرافيش قرأت الثلاثية، أخذ محفوظ وقتها يلعب معي لعبة الغميضة، أيهما هو أنا؟!
كان سؤالاً ساذجاً على صعوبته، لم أعرف إجابته، لا وقتها ولا الآن، لكن محفوظ في الثلاثية لم يصور جانباً من جوانب النفس، أو شخصية واحدة أو عدة شخصيات، بل إنها النفس الإنسانية بكل ما فيها، وما يعرض لها، أي فكرة قد تخطر على بالك، أي حالة مزاجية، أي أيديولوجيا قد تتأثر بها، ستجدها في الثلاثية.
عوالم نجيب محفوظ متعددة وملونة، عوالم مصرية خالصة، فخلال 57 عملاً أدبياً ستمرّ عليك مصر كما لن تمر عليك أبداً، مصرالموظفين في "حضرة المحترم" أو مصر الحارة عالمه الأثير؛ الزقاق، والسرايا والباشوات قديمهم وحديثهم، والهلافيت الحرافيش المنتظرين للمنتصر في معركة الفتونة كي يهتفوا باسمه "اسم الله عليه اسم الله عليه".
ورغم كونه "نجيب"، لم يكن يدّعي لنفسه صورة براقة، كان يخوض الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة على حدّ وصفه على لسان حرافيشه؛ يعتب بعنف على أولئك الذين لا يوافقون على حياتنا في روايته أفراح القبة "كان مثالياً كأنه ابن حرام!"؛ كان يناجي نفسه بلسان سعيد مهران في قلب الليل، فيقول "إنني أتمرغ في التراب، ولكني هابط في الأصل من السماء". أورثته الحارة عناده، فراح يثرثر فوق النيل ثرثرة سمعها عبد الحكيم عامر، ليقول له عندما واجهه بها "كلام حشاشين"؟!
لم يكن نجيب محفوظ على يسار السلطة، كما لم يكن في حضنها، كان يراوغ على الدوام، وهل كان تركه لفضاء الفلسفة الضيق، إلى رحابة عالم الحكايات إلا تفلتاً ومداراة ليتمكن معها من أن يقول ما يقول؛ كانت حيلة قديمة معروفة، استعملها أفلاطون قبلاً، فصاغ "المحاورات" ولا يعرف أحد إلا اليوم أي الشخصيات كان! ولم يقف نجيب عند حدود السلطة في مصر، بل راح يرسم الرأسمالية على حقيقتها القبيحة المستغلة والبشعة، إذ سيجسدها لك في شخص "رؤوف علوان" الذي غرر بسعيد مهران في قلب الليل، ليسلبه كل شيء بلا مقابل.
"السلطة" كما شرحها فوكو ورسمها نجيب محفوظ
تحكم السلطة بعلاقات القوة، إذ يرى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، أن الخاصيتين اللتين يمكن أن يميزا أي سلطة هما القمع/الحرب، فالسلطة كظاهرة قائمة أساساً على القمع؛ وإن كان المجتمع بالنسبة لسيغموند فرويد هو القامع الأول لحاجات الإنسان الغريزية الطبيعية، فإن السلطة هي التي تضمن إطاراً لهذا القمع وتتكفل به، فبحسب عالم الاجتماع ماكس فيبر "يعتبر القمع من الوسائل المهمة والمشروعة التي تعتمدها السلطة من أجل الحفاظ على الأمن والاستقرار"، ويتجلي هذا عند فوكو بشكل رئيس في الحرب، بوصفها إضافة لسيادة السلطة من خلال احتكارها لقراره، وأيضاً زيادة في السيطرة على الأجساد الخاضعة.
فطن نجيب محفوظ للعبة السلطة وديناميكيات القوة فيها، فأخضع رقاب الحرافيش لنبابيت الفتوات الغليظة؛ حيث عرف أنه وحتى لو بدأت الفكرة طاهرة بعاشور الناجي، فإنه لن يبقى منها إلا الاسم على يد أسلافه، لا سلطة بلا قوة، ولا قوة بلا سلطة، فبينما كان يقول ميشيل فوكو وينظر، كان محفوظ يرسم ذلك في روايته الحرافيش.
حيث قامت سلطة الفتوات أساساً، على 3 مرتكزات:
- الحرب: فيبدأ الإعلان عن الفتوة الجديد بحرب يخوضها ضد الفتوة القديم، لينتزع منه اللقب، وفي إطار تثبيت لقبه قد يحارب بعضاً من غير المعترفين بسيادته من أبناء الحارة، ثم بعض المعارك مع الحارات المجاورة؛ من تلك الحروب يستمد الفتوة/السلطة شرعيته، ومشروعية ممارسته للقمع.
- القمع: هو الوسيلة الوحيدة التي كان يضمن بها أي فتوة من فتوات نجيب محفوظ استقرار لقبه، واستمرار حكمه، فكان في الأغلب لا يترك صوتاً يعارض أوامره، ولا يدع مجالاً للمقاومة إن استطاع، فالقمع هو المرتكز الرئيس لبقائه.
- العنف، من أجل أن تترسخ صورة الفتوة حامي الحمى، الذي لا يُقهر، كان الفتوة يجدد عهده بعنف يوجه إلى حارته، أو فتوة حارة مجاورة، في معارك تتجدد في كل حين.
فنجد للقمع والحرب مكانهما في فلك عالم نجيب محفوظ، تماماً كما الحال في طرح فوكو، حيث مرتكز السلطة ووسيلتها للسيطرة.
أسرتني حارته التي قال عنها لمحمد سلماوي "الحارة رمز لأشياء كثيرة، إنها في بعض الأحيان الحارة الواقعية التي عرفتها في طفولتي، وأحياناً هي رمز للوطن كما في زقاق المدق، وأحياناً رمز للدنيا كلها مثلما في الحرافيش وأولاد حارتنا"؛ كانت حارة نجيب محفوظ هي منظوره الخاص الذي ينظر به للعالم كله، إن رمزيتها تتعدى عنده كونها مكاناً ضيقاً يضم مجموعة من الناس ببعض حكاياتهم، إنها صورة مصغرة من العالم الكبير، بل هي العالم الكبير ذاته في كثير من الأحيان.
كما أسرتني عنده فكرة تعاقب الأجيال، في الثلاثية، أو في الحرافيش، وفي حديث الصباح والمساء تجد أجيال محفوظ تسلم أجيالاً تالية ببراعة متقنة، قد لا تجد مثلها عند غيره، وقد قال إنه فتن بتلك الفكرة في البداية في رواية "شجرة البؤس" لطه حسين، إذ يقول لمحمد سلماوي: "وربما جاءتني الفكرة والنية أن أكتب (الثلاثية) أثناء قراءتي لشجرة البؤس، فقد فُتنت بفكرة تتالي الأجيال، وما تكشف عنه من تناقضات، وما ترويه من تاريخ، وما تقدّمه من مشاعر وعواطف، فعلي الرغم من أن شجرة البؤس رواية قصيرة، فقد كان لها أبعد الأثر في نفسي".
والحقيقة أن فكرة كون نجيب محفوظ هو ابن الحارة وعجينها لا تقل إثارة عن فكرة حبه لميراثه الثقافي والحضاري واعتزازه بالرموز التراثية والأدبية والثقافية المشكلة للثقافة العربية، فيقول:" بدأت بالتراث، من القرآن والأحاديث إلى الشعر الجاهلي، انتهاءً بالأساتذة طه حسين والعقاد والمازني، وهيكل وتوفيق الحكيم، قرأت أعمالهم كلها مثل المتنبي والجاحظ، وأبي العلاء المعري، واستهواني البحتري وأبو نواس..".
نجيب محفوظ والبحث عن الله
رغم أسري في عوالم نجيب، بقيت لي حاجة في نفسي مذ قرأت "أولاد حارتنا" وهي إلى أي درجة وصل يقينه؟ عوالم محفوظ كانت كثيرة كثيفة متعرجة الدروب، جاءت إجابته في قلب الليل لي شافية على لسان جعفر، لكن بلا تفصيل: "كيف حال إيمانك اليوم يا جعفر؟.. إني عاجز عن الكفر بالله". هكذا بضربة واحدة؛ لكن نفسي بقيت تتوق التفصيل حتى شفى غلة منه حوار سلماوي، فسأله بوضوح: "هل مرت عليك لحظات شك على مستوى العقيدة؟ أجاب: كان ذلك في مقتبل العمر حين أردت أن أخضع عقيدتي للعقل والمنطق والعلم. كانت فترة طويلة وأليمة، لكنني خرجت منها بقلبي لا بعقلي، خرجت منها باليقين، لكنه يقين الإيمان، أما العقل فقد سحبه اليقين وراء".
تتعدى تجربة اليقين الإيمانية عند نجيب محفوظ مرحلة "العجز" عن الكفر بالله، إلى منطقة الدفء الصوفي، الذي أتاه كالغزالي، بعد مرحلة شك استمرت لأكثر من 5 سنوات، يقرر أن العقيدة تقترن بالروح والقلب أكثر مما تقترن بالعقل، وينزع منزع الصوفية الذين لا يفكرون بعقيدتهم على نحو عقلي، بل ينزعون إلى التسليم، ويترقون المراتب، حتى يصلوا التجلي.
بل إنه ينتصر للميتافيزيقا، مقراً بعجز الوضعية، فيقول: "إذا نظر الإنسان إلى ما في السماوات والأرض ونظر إلى نفسه، سيجد أن نظير موقع معرفة، هناك محيط من اللامعرفة؛ فالمعرفة بطبيعتها غير كاملة، خاصة في العلم، فقد يعرف العلماء قوانين طبيعية كثيرة، دون أن يعرفوا ماهية الطبيعة، أو لماذا وجدت؟!"
بالنسبة لي يظل محفوظ هو ذلك الوجه "العادي" اللابارز، الذي يشبه كل الوجوه التي يمكن أن نقابلها على مقهى الفيشاوي الذي كان يرتاده، أو أي من مقاهي العباسية، أو أي مكان في مصرنا، يشبهنا ونشبهه، منا ونحن منه، تعيش مع كمال عبدالجواد أرقه، وتحب الشيخ جنيدي، وتكره رؤوف علوان، ستكون مع عاشور الناجي حينما "فتر حماسه، انطفأ إلهامه، جلله الحياء، عاتب نفسه، عنف عشقه، شد على إرادته، قبض على شاربه الشامخ، قال لنفسه: "لا تجعل من نفسك حديث كل من هبّ ودبّ". أي تصوير هذا الذي صوّره للحرافيش، صور متراصة تُعجز اللسان أحياناً.
لم يخرج صاحبنا النجيب من مصر إلا مرات ثلاث، كلها لم تكن بإرادته الكاملة، إذ كان حبيس عشقه للبلد. ويقول: "مصر ليست مجرد قطعة أرض، مصر هي مخترعة الحضارة.. توالت عليها الأمم جميعاً، فبعد الفراعنة جاء الفرس ثم الإغريق والرومان، ثم العرب.. إنه قدرها في الحياة وما كتب لها أن تتعامل معه بخيره وشره".
كان يعرف أن تراب أرضه معجون بالحكايات، مخزن كبير لثقافات وحضارات وأديان وأعراق، إنها أمصار وليست مصراً واحدة، فرعونية ورومانية، وقبطية، وإسلامية، وأفريقية، وآسيوية؛ إن مصر محفوظ مجمل لحظات جعلتها مكون خاص جداً، فوجد نفسه لزاماً عليه أن يقدمه متى استطاع، فنجد مصر القبطية جاءت بالنسبة لمحفوظ كردة فعل على غزو الرومان، ومصر الإسلامية التي وُلد في حاراتها يعشقها بكل تفاصيلها، التي تتميز عن أي بلد ذات طابع إسلامي آخر، ثم هناك مصر الفرعونية التي لا تشبهها حضارة.
اليوم أسلم نفسي لقدري كما ابن فطومة، وأحاول أن أرد جزءاً مما أشعر به تجاه ذلك الرجل، وأكتب عنه في ذكرى وفاته، وليبقَّ صوته ووجهه وقلمه حاضراً أبداً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.