الصديق، أي: الصاحب الصادق الودِّ، كأنه فرع من فروع شجرة كرم لطالما أغدقت السائلين بحبات من الخير، والإخلاص.
أسأل دوماً لِمَ الصديق؟ لِمَ اختصنا الله بهذه النعمة؟ رُبَّما أراد أن يراضينا، ويهون علينا نكبات العمر برفيق لا يضاهى بثمن، يبدو أنني لم أعبِّر لأحد منهم عمّا في خاطري من قبل، فلم تأتِ فرصة للبوح، فقررت أن أكتب بعض المراسيل دون أسماء، ولا عناوين، ولن أرسلها لشخوصها، سأكتفي بتدوينها هنا، على يقين تام بأنهم سيجدون أنفسهم داخلها فور قراءتهم لها، فلن تضلوا يا رفاق وسط حروف كُتبت لكم وبكم.
المرسال الأول:
إلى خِلي الوفي الذي لم يعد بجواري، أعلم أننا لسنا بالقرب الكافي، ولكني أحبك، وأجلك، وأقدر بركان غضبك؛ لذلك تركتك على هواك، تبتعد أميالاً، وتغيب دهوراً، وتتمرد، ثم تثور، فأنا أعلم أن أصول روابطنا أنبه، وأعتى من أن تضنيها لعنة الأيام.
لا تحسب أني لا أبالي؛ بل رغم أنفي أبالي، ولهذا أكتبك بحروفي، وأرسمك بتشبيهاتي، وأحكي للعالم عنك.
لم أنسَ قسمات وجهك المكور، ولا نظرات عيونك التي لا تكذب، أذكر كل سر، وكل عهد، وكل ابتسامة بدت على فيك، بعد فيض دموعك ذاك وأنت تحكي لي عن آخِر خيباتك.
لا أنسى أيضاً أنك أول مَن أعاد إليَّ ثقتي بنفسي قبل كل هؤلاء، تأكد أن لك بفضاء روحي قدراً كبيراً، فليس من السهل أبداً أن يستفز أحدهم كلماتي، ويروضها حتى تكتب له.
أنتظرك تأتي، وتصب عليَّ كل عتاباتك، وشقوق نفسك، واستنكاراتك، وانهياراتك، وأعدك أن أستقبلها بكل ما في من حنان، وامتنان، سأشدد أزرك، ولن أخيب عزة نفسك مثلما فعلوا، فأقبِل، ولا تدبر يا خيرة الخلان، وثق بأنك لست بمسكين، فالسهل اللين له الجنة.
المرسال الثاني:
كيف حالك يا صاحبي القديم؟
أتمنى أن تكون أمورك بأفضل حال، أتذكر يا زميلي فصول الحياة التي تشاركناها معاً؟
على كل حال ليس من الضروري أن تتذكرها الآن، فلقد التهينا بزينة بعضنا البعض، ولم يلقِ أحدنا بالاً أنه لا أساس لعلاقتنا، قضينا وقتاً ممتعاً، لعبنا، وتحدثنا، وعندما دق ناقوس السماء محذراً من اقتراب هبوب رياح الخريف، تهاوينا مثل أعواد قش، ثم تفرقنا، وتمزقنا.
لا تخَف، فأنا لا أذكرك بسوء، لا أنكر أبداً ساعات استماعك الطويلة لأحاديثي، ولا محاولاتك في إلهاء قلبي عما يكدره، فكل خير يبقى، وكل يرد في ميقاته، أشكرك كثيراً، ولا أنكر عرفاني للأيام التي جمعتنا يوماً، إذا حدث والتقينا يوماً، لا تدِر وجهك، فليس بيننا غصة، فلا علة فيك ولا في، فلا تحمل المقادير لأصحابها سوى الخير.
المرسال الثالث:
أي أيها المخلص الوقور، شهم الخصال، حلو الشامات، حاضر وقت الحاجة، لا تتبدل، ولا تتغير، لا نتحدث كل يوم صحيح، ولكن علاقتنا فطرت على وصال طويل الأمد، متقطع الفترات، مثل محاصيل القمح، تزرع وسط رعونة الشتاء، وتحصد بعد شهور من الصبر، والعناية، وكأن أوصالنا لو اتخذت وتيرة أسرع، نضبت، واستوطنتها آفة النسيان.
أدامك الله ذخراً، وخير مضياف لكل طالب، لا تسمح لنفسك أن تجزع أبداً من جلبة قرع الباب، فكيف ترد آنام الله مكسوري الخاطر بعد أن توسموا فيك خيراً؟
أما المرسال الأخير فأكتبه بكل ما أشعر، ولو استطعت أن أرصعه باللازورد لفعلت، إلى وليفي، إلى من شاركني كل لحظات الحب، والانكسار، إلى مَن بكى بدلاً عني ومني، وفرح لأجلي، ولازمني كل فصول الحول، حتى انطوينا ببعضنا البعض، وانخرط بظلي، واختبأت في كنفه، فصرنا عصبة لا تنحل، ولا تتفتت، وبالرغم من سفه العالم، وعدوانيته، وبغض النظر عن كل العتابات، والتفاهات، والهراءات التي تفوهناها، أحبك.
أحبك كيفما أنت، أحب انطوائيتك، وصوتك العالي، وقراراتك الشمطاء، وهواياتك التي لا أفهمها، وقهوتك الفائرة، وموسيقاك، وفوضاك، وكل ما فيك ومنك، أحبك.
أحفظ تفاصيلك عن ظهر قلب، حتى وإن بدوت غير مكترثة، أعلم أني أتحدث كثيراً، وأشكو كثيراً، ولكن ما الحديث والشكوى إلا حب، ورغبة في التودد.
تاهت فيك حروفي، فكيف أختزل عمراً في بضعة سطور؟
أتحدى بخطاوينا سخافة العالم، وأناضل بحروفي مفترقات الطرق، فحتى وإن غربتنا أيام، ستراني بين جموع الورود، وسأراك بين ضحكات الأطفال، فنحن معاً، سواء بقينا على نفس الأرض، أو فصل بيننا مئة بحر، هاتِ يديك لنندمج أكثر، ونغامر أكثر، ونلهو بالزمان أكثر، كم يعتريني الفضول لأتأمل ثنايا وجهك، وأنت تقرأ رسالتي، أتمنى أن تتملكك مثلما تتملكني، لعلها تعبر عن شطر مما أملكه تجاهك.
اخشوشن أيا رفيق، فلا الضعة خلقت لمن مثلك، وعليكَ نفسك لا تهنها، فالفارس يعيش ويموت بشرف الكرام.
وها أنا ذا في أولى محاولاتي للتعبير عن نقطة في بحر أسراري الهائج، أشعر بنشوة النصر على الكتمان، وأدعوكم أنتم أيضاً للبوح بما يختلج في صدوركم، عسى مرسال بسيط يشفي كبرياء مخذول، ويلهم صبر منتظر، ويعيد مجرى ماء معطوب، لكم كل السلام، يا مَن جفاكم السلام.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.