منذ تعيين هاكان فيدان وزيراً للخارجية في تركيا، قبل 3 أشهر من الآن، كثُرت الأسئلة حول ما يمكن للرجل القادم من رئاسة جهاز الاستخبارات التركي، والصندوق الأسود للرئيس التركي أردوغان، أن يقدمه للسياسة الخارجية التركية.
لا يختلف المتابعون على أن هاكان فيدان لديه الإحاطة الكافية بملفات السياسة الخارجية التركية، فخلال السنوات الـ13 الماضية التي قاد فيها جهاز الاستخبارات، استطاع أن يحول الجهاز من جهاز أمني يركز في جزء كبير من عمله على الوضع الداخلي في تركيا إلى أداة فاعلة في صناعة وتطبيق السياسة الخارجية التركية. قاد فيدان الجهاز في فترة مرت فيها أنقرة بتحولات كبيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي، وشهدت تركيا خلالها إعادة تشكيل عقيدتها للسياسة الخارجية والأمنية نحو عقيدة قائمة على انخراط أكبر في الملفات الإقليمية، والتركيز على العمل الميداني. كما كان حاضراً على طاولة المفاوضات وفي أروقة صنع القرار في ملفات السياسة الخارجية الحساسة، من الملف السوري والليبي، إلى العلاقة مع روسيا والحرب في أوكرانيا. وإضافة لذلك فقد تقلد مناصب إدارية ذات صلة بالتعاون الدولي من قبيل رئاسة الوكالة التركية للتعاون والتنسيق "تيكا"، وعضوية الهيئة الإدارية للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
إضافة لهذه التجربة الميدانية والمؤسسية، أو حتى سابقاً لها، فإن فيدان صاحب رؤية فيما يتعلق بالعلاقة بين السياسة الخارجية والاستخبارات، تقوم على ضرورة التنسيق والتكامل. ففي رسالته للحصول على درجة الماجستير التي قدمها في عام 1999، والمعنونة "الاستخبارات والسياسة الخارجية: دراسة مقارنة بين أنظمة الاستخبارات التركية والأمريكية والبريطانية"، خلُص هاكان فيدان إلى "حاجة تركيا إلى جهاز استخبارات يقدم المعلومات المطلوبة لتشكيل- وأحياناً لتطبيق- سياستها الخارجية"، وإلى ضرورة "إصلاح جهاز الاستخبارات ليقدم الدعم للدبلوماسية التركية"، بل وحتى "لتقديم الدعم في مراقبة [تطبيق] المعاهدات والاتفاقيات"، الموضوع الذي توسع فيه لاحقاً في رسالة الدكتوراه، والتي ناقشت دور الثورة المعلوماتية وأدواتها في التحقق من الاتفاقيات الدولية.
في حين لا يوجد الكثير من الشكوك حول خبرة هاكان فيدان المتراكمة، أو كفاءته المهنية، أو تحصيله المعرفي، الذي يؤهله لإدارة دفة وزارة الخارجية، يبقى السؤال عن: ما هو الجديد الذي سيقدمه للخارجية التركية، وكيف سيكون أسلوبه في صناعة سياساتها؟
رؤية هاكان فيدان وتجربته المتراكمة تشير إلى أنه أسلوبه في وزارة الخارجية التركية (أو جهاز الخارجية Hariciye Teşkilatı، وفق الوصف الذي فضله فيدان، أثناء مراسم تسلمه المنصب من سابقه مولود تشاووش أوغلو، وفي تغريدته الأولى على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو الاسم الذي يحمل دلالات تاريخية تعود لحقبة ما قبل الجمهورية) سيرتكز على تعزيز البعدين الاستخباراتي والميداني في صناعة السياسة الخارجية التركية، وردم الهوة بين الطاولة والميدان.
بالنسبة للبعد الاستخباراتي فإن الحساسية الأمنية التي يتمتع بها فيدان ستؤثر على طريقة عمل وزارة الخارجية التركية، وقد بدا ذلك واضحاً من خلال التسريبات التي تحدثت عن تعبير فيدان عن انزعاجه من النسبة الكبيرة لأفراد الكادر الدبلوماسي التركي المتزوجين من جنسيات أجنبية، ما يشير- في حال صحة التقارير- إلى أن فيدان سيولي أهمية أكبر لرفع البعد الأمني للكادر الدبلوماسي، وللعمل على زيادة الضبط الداخلي لوزارة الخارجية التركية، كما أن خلفيته في البعد الأمني والمعلوماتي ستسهم في تعزيز رسم سياسة خارجية مبنية على المعلومات الميدانية.
أما على الجانب الميداني، ففي مقابل الوزير السابق تشاووش أوغلو، الذي قاد وزارة الخارجية التركية لمدة تسع سنوات، وتميز بزياراته المكوكية بين مختلف عواصم العالم، فإن فيدان يتميز إضافة لذلك بقربه من الميدان. الحدس الميداني والتوجه لصنع السياسة الخارجية انطلاقاً من الأرض بدا واضحاً في الزيارات واللقاءات التي قام بها فيدان في زيارته للعراق في الأسبوع الماضي، والتي تعدت الـ20 لقاء خلال ثلاثة أيام. حيث لم تقتصر على نظيره العراقي أو الشخصيات الرسمية، بما في ذلك الرئيس العراقي ورئيس الوزراء، بل تعدت ذلك للقاء شخصيات مثل عمار الحكيم ونوري المالكي وقوباد طالباني وقيس الخزعلي.
تعزيز البعدين المعلوماتي والميداني في صنع السياسة الخارجية التركية سيُسهم في تناسق الأدوار في السياسة التركية، وكذلك في جسر الهوة بين الفعل الميداني والترجمة السياسية له على طاولات المفاوضات، وهو ما كانت تعاني منه السياسة الخارجية التركية في الفترة السابقة. خبرة هاكان فيدان في العمل في مؤسسات الدولة المختلفة، من القوات المسلحة التركية، ورئاسة الوزراء كمستشار في الشؤون الخارجية، ورئاسة الوكالة التركية للتعاون، إضافة لرئاسة جهاز الاستخبارات تعطيه اطِّلاعا كافياً على تفاصيل عمل كل أجهزة الدولة، وتساعده على رسم تصور أوضح للتنسيق والتناغم بين أعمالها. كما أن تعيين إبراهيم كالن، الذي كان يلعب دور مستشار الأمن القومي للرئيس التركي أردوغان في منصب رئيس جهاز الاستخبارات التركي، خلفاً لفيدان، سيساعد على تقوية هذا التناغم بين عمل الأجهزة المختلفة.
انعكاسات هذا التطور في السياسة الخارجية التركية يتوقع أن تتمثل بسياسة أكثر فاعلية وانخراطاً في الميدان، تحديداً في المناطق التي تشهد صراعات، والتي لا تخلو منها المنطقة العربية. وكذلك في قدرة أكبر على ترجمة العمل الميداني لإنجاز سياسي، وتطبيق الرؤية السياسية على الميدان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.