في عام 2012، تحديداً في شهر أبريل/نيسان، كان محمد صلاح جالساً في قناة النهار في ضيافة الإعلامي كريم حسن شحاتة، في التوقيت نفسه كانت مباراة برشلونة ونادي ميلان الإيطالي في ربع نهائي بطولة دوري أبطال أوروبا موسم 2011-2012.
كان رد فعل صلاح عفوياً، حينما أخبره كريم بأن برشلونة يتقدم في النتيجة بثلاثية وسجل ميسي هدفين منها، وأخبره صلاح بأنه يُحب نادي برشلونة ويعتبر ميسي هو الأفضل من وجهة نظره.
أما بخصوص كريستيانو رونالدو وميسي فوصفهما بأنهما "معديين"، وهي كلمة نصف بها في عاميتنا المصرية الأشياء التي يصعب علينا تصديقها.
ربما لو كان محمد صلاح على دراية كافية بأنه سيكون بعد 6 سنوات بينهما؛ لحرص على التحدث بصياغة رسمية أكثر أثناء ذلك اللقاء، إذ سيقف في نهائي دوري أبطال أوروبا عام 2018 في خصومة كريستيانو رونالدو، وفي البطولة نفسها لكن في نصف النهائي منها عام 2019 أمام برشلونة ونجمه الأرجنتيني ليونيل ميسي.
وهنا، هنا تحديداً؛ كان العامل الفاصل دائماً في مسيرة محمد صلاح، العفوية وعدم الاصطناع، حوّل محمد صلاح كل شيء في الكرة المصرية والعربية إلى حالة فريدة يُمكننا أن نجلس حولها دون ملل.
ولا أدري إن كان ميزة أو عيباً في شعوبنا العربية؛ أنها تنجذب بسرعة إلى الأشياء التي تُشبهها، وتُحيطها كأنها لها، ومحمد صلاح كان من بين هؤلاء الذين يُشبهون كل واحد نُقابله في محطات المترو، أو في المواصلات العامة، أو حتى على المقاهي.
كان عادياً جداً؛ وهذا ما ميزه، يحمل المصحف في كل مكان، مُجتهد، يُجرب أكثر من مرة، يتقبل فكرة الخروج والإعارة، يتقبل تبدُّل الثقافات السريع، باختصار أصبح محمد صلاح نموذجاً فريداً للغاية.
نموذج يختلف كلياً عن الصورة النمطية التي يعرفها العالم عن اللاعبين المصريين؛ وأتذكر في مقالة قرأتها منذ سنوات، عن تأثير من سبقوا صلاح من المصريين في قارة أوروبا.
كان أحد الصحفيين يحكي في بداية الألفية الحديثة، ذهابه إلى إنجلترا والتحدث مع أحد الأشخاص الذين دُهشوا لأنه من مصر، وأنه من الأرض نفسها التي أتى منها أحمد حسام ميدو!
ميدو كان حالة فريدة تماماً، لكن ما فعله ميدو ومن سبقوه، ربما كبَّد من بعدهم كثيراً من الضرائب، ضرائب يدفعونها نظير أخطاء ارتكبها غيرهم.
وكانت هذه هي العقبة الأكبر في مسيرة محمد صلاح، الشاب اليافع الذي خرج من مركز بسيون قاصداً القاهرة، ثم من القاهرة إلى سويسرا، ثم استقر في قارة أوروبا بلا عودة حتى اللحظة الحالية.
العقبة هي اللغة، والانضباط، وأيضاً أن يكون اللاعب مثلما يعتقد الأوروبيون عنه، وهو ما تأكدت منه في مقالة لأحد الأصدقاء، كان يشرح فيها أسباباً أبعد من التي نتناولها دائماً حول محمد صلاح.
وكانت وجهة نظره خاصة نحو كيف استطاع محمد صلاح أن ينتصر لنفسه ولمن يخلفونه؟ وكانت إجاباته قائمة على أن محمد صلاح كان يجد صعوبة بالغة في التحدث، في الفهم، وكذلك في التدرب رفقة معظم الفرق التي انضم إليها في البداية، سواء كان في: سويسرا، إيطاليا، أو حتى حينما وصل إلى إنجلترا بعد خروجه منها.
ستقول حالياً: إذن وما المشكلة، فكل لاعبي العالم يُعانون من المشكلات نفسها؟ مهلاً، الأمر أبعد من كل لاعبي العالم، وهي كلمة حق يُراد بها باطل!
حق؛ لأن كل لاعبي العالم بالفعل يُعانون في هذا الصدد، وهذه النقطة لا خلاف فيها، وباطل؛ لأن كل لاعبي العالم يتأقلمون معها، لأنهم يعلمون ما سيعود عليهم إذا تولوا عنها، وهو أمر كان معظم النجوم المصريين في السابقين يلجأون إليه.
كانوا يهربون من هذه الالتزامات الصارمة؛ التي تعني أنهم وإن خرجوا من مصر، فإنهم لم يذهبوا إلى الجنة، حيث يُمكن لكل واحد منهم أن يتقاضى راتباً ضخماً دون أن يتدرب، أو حتى دون أن يتطور، وهي مشكلة لدى أغلب لاعبي منطقتنا.
يشعرون بالتميز دون مجهود أو عمل، بأنهم لا يستحقون أن ينالوا التعليمات ولا تليق عليهم الأوامر التي تسري على غيرهم؛ لذلك كانت عودة أغلب المحترفين وشيكة بعد أشهر من خروجهم من مصر.
صلاح، لم ينتصر فقط من أجل موهبته -التي يراها البعض ليست الموهبة الأفضل في تاريخ الكرة المصرية- بل انتصر لأنه جاهد كل هذه الإغراءات الرهيبة.
كل صوت كان يُخبره بأن يعود أدراجه، وسيلعب في النادي الأهلي أو في الزمالك، وستهتف الأبواق الإعلامية له مهما فعل، وسيستند على جمهورين من أقوى الجماهير العربية، مثلما فعل السابقون الأولون.
صلاح كان كالذي يسبح عكس التيار، وهي مخاطرة شديدة إذا أردنا أن نصفها؛ لكونها تعتمد في الأساس على كم كبير من التوفيق وكذلك على قدر كبير من الثقة بالنفس.
وبين البينين؛ كان لزاماً على محمد صلاح أن يتطور: في اللغة الإنجليزية للتحدث بلغة مشتركة في كل مكان يدخله، والتطور في اللغة الخاصة بكل دولة يلعب بقميص أحد أنديتها، وأيضاً التطور الفني الذي سيُعلمه أن الكرة ليست ركضاً وسرعة قياسية طوال اللقاء، وإنما استثمارهما معاً في أهداف مختلفة.
الشاب المصري البسيط، استطاع أن يخرج من هذا الحيز الضيق سريعاً، ونال إعجاب المدرب الألماني يورغن كلوب، وكانت صفقة وصوله إلى نادي ليفربول متوسطة الضجيج؛ لأنه لا أحد كان يراه على قدر كبير من التأثير وقتها.
محمد صلاح حينما وصل إلى ليفربول، تبدل كأن شخصاً آخر قد ذهب إلى هناك، وتغير كل شيء بخصوصه، وبدأ يتحدث بالإنجليزية بشكل روتيني بحكم أنه يتعامل ويُجالس الإنجليز طوال اليوم.
لكن أُخذ عليه أنه بدأ يتغرب عن البيئة التي خرج منها؛ وهذه هي الضريبة التي كان عليه أن يدفعها، مضطراً أو راغباً، ضريبة صعبة لكنها في الوقت نفسه حتمية.
وبدأ محمد صلاح يُدرك أن لكل كلمةٍ صدى، ولكل فعلٍ رد فعل، وكل تصريح سيُدلي به سيُزعج فئة من العموم، سواء كانت عربية أو غربية.
وتحول محمد صلاح "الشاب المصري البسيط" إلى "مو صلاح"، اختفى المصحف من بين يديه، وأصبح شحيح الحديث فيما يتعين عليه أن يتحدث فيه، ووصل به الحال إلى أنه أصبح سُخرية أبناء وطنه في حادثة غريبة حدثت عام 2022 في نهائي دوري أبطال أوروبا بين نادي ريال مدريد وليفربول.
محمد صلاح للمملكة العربية السعودية؟
أعتقد أن هذا الزحف البشري الكبير نحو المملكة العربية السعودية، والذي طال النجوم الكبار أمثال: كريستيانو رونالدو، نيمار دا سيلفا، كريم بنزيما، ساديو ماني وروبيرتو فيرمينهو، لن يكون سهلاً أن تستنكره.
إذ تسعى المملكة العربية السعودية حالياً إلى أن تكون قوى عظمى في كرة القدم، فتحول الدوري الخاص بها إلى محفل عالمي تزداد مشاهداته بشكل متسارع.
في المقابل، يقف محمد صلاح حالياً في مفترق الطرق، بين أن يذهب إلى الخليج العربي فتتبدد هذه الأسطورة التي حاول محمد صلاح أن يرسمها في أذهان العرب حتى قبل الغرب.
وبين أن يستمر في ليفربول، يستمر ملكاً متوجاً لا يقوى على مواجهته أحد، ولن ينال الحُب نفسه في أي مكان آخر مثلما يحدث معه في مدينة ليفربول الإنجليزية.
اللاعب الذي استطاع أن يضع اسمه فوق أسطورة ليفربول تاريخياً ستيفن جيرارد، ويدخل قائمة أساطير النادي، وكذلك سيوجد في قائمة أكثر من سجلوا 100 هدف في الدوري الإنجليزي، ولديه نشيد باسمه في مدرجات ليفربول تهتف به الجماهير، بعد تسجيله الأهداف أو إهداره لها.
هذا العرض الكبير على الطاولة، سيكون الشاهد عليه هو موافقة العديد من النجوم، ممن هُم أكبر ومن هُم أصغر سناً من محمد صلاح، والذين تركوا أوروبا، بتسويقها واسمها ودورياتها الكبرى، قاصدين الخليج العربي للعيش في نعيم وترف ليس له مثيل في أوروبا.
وسيكون إجحافاً إذا أراد أحدهم أن ينتقص من محمد صلاح بحجة أنه قد فضّل المال على مسيرته الجميلة، وانتهى به الحال إلى ما انتهى إليه معظم من سبقوه من السابقين الأولين في مصر؛ الخليج العربي.
الإجابة الشخصية: محمد صلاح ليس واحداً من بين هؤلاء الذين غادروا أوروبا؛ ببساطة لأنه لا يتمتع بالسيرة نفسها التي يتمتع بها غيره، ولا حتى عاش في الصورة النمطية نفسها للبقية، فكل واحد ممن ذهبوا للمملكة العربية السعودية كان بالضرورة قد توقف عن البحث عن فرصة جديدة في أوروبا، أو كان دافعه الأساسي منذ الخطوة الأولى في مسيرته هو المال، وسواء كان هذا الهدف في أوروبا أو الخليج العربي؛ فإنه سيذهب إليه ولا يعنيه أي شيء آخر.
لكن صلاح يختلف في الجوهر نفسه؛ لأنه خرج من بيئة لم ينجح منها أحد تقريباً، ولم يكُن الطريق ممهداً بالنسبة له في ترسيخ اسمه بين عمالقة الكرة الأوروبية، ومزاحمة أساطير ليفربول وكسب احترامهم!
صلاح ما زال أمامه الكثير ليُقدمه في الكرة بشكل عام، سواء كان بقميص اتحاد جدة السعودي، أو ما زال لونه أحمر بقميص ليفربول الإنجليزي، لكني أعتقد أن القميص الأحمر سيكون أفضل بكثير، على الأقل بالنسبة لنا، كأشخاص كانوا شاهدين على هذه المسيرة التي لا يليق بها أن يدخلها الشك، لا في بدايتها ولا حتى في نهايتها.
فإذا اختار محمد صلاح العروض الفلكية التي تُقدم له حالياً؛ فإنه لن يثبت شيئاً جديداً لنا عن أن العالم تحكمه المادة، لكن رحلته سيكتب لها هبوط اضطراري بسبب عاصفة قوية اختبرتها من الخليج العربي.
وإذا وافق على الاستمرار في صفوف ليفربول؛ فإنه بالضرورة سيكتب مو صلاح لهذه القصة الجميلة نهاية وخاتمة تليق بها؛ لكونه فعلياً قد سجل مؤلفاته كلها بقلم ليفربول، وطبعها على جدران المدينة، ولا يصح له أن يُحاول استنساخ القصة نفسها في مكان آخر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.