معاناة المرأة بصفة عامة قديمة كقدم الإنسان حرفاً، ذاقت الويلات، وامتطت النكبات عبر العصور، وفي جميع البقاع. عانت من تصورات بليدة تارةً أرضية، وأخرى باسم الأديان بخاصة ممن ينصبون أنفسهم المتحدثين الرّسميين باسم الآلهة، كما أن سعي التمكين، والتحرير باجتهادها الخالص، أو باجتهاد مجتمعات وثقافات قديم قدم وجودها، ولا أعتقد له نهاية، أو محطة توقف ما دامت تحوم حول كينونتها تمتمات ساخرة منتقصة، وتسيّج مواردها الخلاقة أشواك عازلة قاتلة، وما فتئت هي بالعقل تنبش، وعلى ضوء نوره تخطو.
والحق يُقال: جميع الحضارات، بلا استثناء، والحضارة هنا؛ بمعناها الثقافي، والمعنوي الأصيل وليس بمعناها السياسي، أو المادي من زاويتها حاولت محاولات جادة وحثيثة ومتباينة، فلكل حضارة خصوصية تطبعها انعكست إزاء ملف المرأة، وفيما يعني ضمان مكانة المرأة، وكرامتها، وتمكينها، وتحريرها من أغلال كبلتها مدى حياتها الصعبة المنهكة، وبالتالي المحاولات في سبيل إحقاق حق المرأة متفاوتة بين الحضارات والثقافات، واليوم المسألة النسائية بعيداً عن أي أيديولوجيات في تحسّن؛ بيد أن الأزمة ما زالت مستمرة إلى لحظة رسم هذه الحروف، وبقاؤها يعود بالدرجة الأولى إلى عقل تليد يأبى العدالة ماثلة.
الإسلام والمرأة، وقضية التمكين.. أين الإشكالية؟
أنصف الإسلام المرأة بشكل جذري، وشيّد لها مدينتها الغانية؛ حيث مكانها المستحَق، بعدما كانت من قبله تئن داخل سراديب حالكة، النجاة منها تعني الفناء. تجسدت مكانة المرأة المستحقة بالوحي المنزّل، وبسلوك نبي الله المبجّل، فالقرآن أقرّ بأن المرأة كيان كالرجل تماماً، تقع على عاتقيهما مسؤولية العمارة في الأرض، ويوميات نبينا في رحاب نسائه الطيبات، ونساء المسلمين؛ لأبلغ وأدمغ دليل على كينونة المرأة المكرمة، وعلى وجدانها النبيل ووجودها الأساس، فما عنّف قط، ولا أهانَ، ولا لطمَ، ولا رفع صوتاً في حضرة نسائه أمهات المؤمنين ولا غيرهن، فمن أين للإسلام أن يسيء للمرأة؟
ومن تلك البقعة الأولى، مهد النور العابر، نعرج إلى نماذج نسائية باقتضاب حصل لهن شرف السبق، والسبق لمؤازرة الحق، من بينهن المرأة التاجرة أمنا خديجة، أول من أسلم وأول من صدّق، عائشة كانت فقيهة وعالمة تُعلم الناس ما أخذت عن خير البرية من علم، وسنن حياتية، وأول من بث قصة حب فاضلة من عالم فاضلٍ، كما كانت قيادية تأمر فيُستجاب لأمرها؛ نظير جلالة قدرها. ربط التصور الإسلامي اسم مركبها باسم معركة تاريخية فغدت المعركة تسمى باسم هودجها (معركة الجمل)، وأخيراً أول ممرض وطبيب في الإسلام يظهر بشكل مؤسسي رفيدة الأسلمية؛ حيث نصبت خيمة وجمعت بداخلها معدات التطبيب والاستشفاء بغرض علاج وتطبيب جرحى المسلمين.
مما فُضّل به النساء أن سميت سورة قرآنية باسم امرأة "مريم"، وأخرى بـ"النساء"، وساح الفضل أكثر، فتناولت الأخيرة قضايا المرأة بشكل واسع، وممّا قُرأ مطلع (سورة النساء) يبدأ بخطاب مفتوح موجّه بمعنى أنه عام يُعنى بكل الأنواع: الأنثى كما الذكر، المسلم والآخر، الصغير كما الكبير يقول تعالى: (يَا أَيُّها النَّاس اتَّقُوا ربّكُمُ الذي خَلَقُكُم مِّن نَفْسٍ واحِدَةٍ…) (سورة النساء) (1) الكل مطالب بالتقوى وما ينجرّ عنها من خير يبني ويُّعمّر، كما نقرأ التأكيد والتذكير بمسألة الأصل {خَلَقُكُم مِّن نَفْسٍ واحِدَةٍ} حتى لا تغيب عن الألباب؛ لأنها مسألة ذات أهمية بمكان لما ينجرّ عنها من توازن، وتفتح محمود لو عرف الكل أنهم سواسية وأن بداية التكوين واحدة، والغاية من خلقهم واحدة.
وفي سياق التفضيل أثنى القرآن الكريم على ملكة سبأ (امرأة) من خلال الثناء على حسن سياستها، وفهمها الرشيد لقضايا الحكم، فيقول عنها: (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ) سورة النمل (34)، وهي مقولة من طراز الحكمة، والفكر السامي قاعدة من عقل كامل للإنسانية جمعاء، ولا تعني إلا أساس فكرة التمكين، وضرورة التمكين الذي لا يعني إلا مزيداً من القواعد الحاكمة الرشيدة. كما أنها قصة لامرأة قيادية تحكم شعباً ذكرها القرآن لأسباب عدة، ليس من بينها قطعاً تقريع وجودها أعلى السلطة، ما يترتب عنه ضرورة مزيداً من القراءة التأملية.
وتستمر حكاية المرأة كجزء أصيل من حكاية الإنسان، الممكن في أرضه المسخرة لخدمته، فينص القرآن على قضيتها بين صفاحته الكريمة، ففي سورة يوسف تُعرض لنا من جديد قصة المرأة يقول -عز وجلّ- {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} نقرأ منها ما يُعزز مكانة المرأة في المجتمع، ويسند فكرة أساس وجودها المشارك في التعمير والبناء الكوني، فهنا تمشي المرأة بمفردها، ليس معها سوى سلاح الحياء والخلق والتربية الأصيلة عابرةً شوارع المكان بما فيه من أشواك، وعثرات؛ لتوصل بريد لرجل لا تعرف عنه سوى أنه صَنع معروفاً. هذا الأخير (المعروف) الذي يعني بشكل ما سبب النزول الإنساني الأرضي، وهو التفسير الطبيعي لعلّة التقاء الأنواع، وردفاً لما قُرئ، الآية تتحدث عن رؤية أسرة لعلاقة المرأة بالمحيط الخارجي، الأب لم يقابل بطل الصنيع الخيري بالنسبة إليه حينها مجهول الاسم والوظيفة؛ لكنه معروف لديه بجميل صنيعه، لم ينزل عليه وحي يُخبره بجلالة قدر يوسف -عليه السلام- ولا بنبوءته؛ إنما هي من قابلته وهي من حكت له مشهد المروءة، بيد أن مسألة التربية لها دور كبير في القضية، فالتربية أساسية في ما يخص التفاعل المجتمعي، فالشخص الذي يُخالط المجتمع؛ ليُّعمّر فيه لا بدّ له من قدر معتبر من التّربية الشّاملة، كما أن ما يرد من أفعال، وأقوالٍ، وسلوكيّات في كتاب الله يستوجب منا اتباعه بالحرف، فهو بالنسبة لنا الشعاع الدليل، خارطة طريق عبرها نعبر إلى ما يجب أن نعبر إليه بيقين التحقيق.
على سيْر حديث كرامة المرأة وتمكينها هنا في هذه الآية نخلص إلى ما يمكن أن تقدم المرأة ليس فقط لمجتمعها بل للإنسانية قاطبة {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} بحكمة جامحة سطّرت (المرأة) قاعدة تخص المجال العملي على مداه (قانون العمل) فحسب قولها: العمل المتقن ذا النتائج المُرضية لا بد له من صفتين أولهما: "القوة" بمعناها الفضفاض، والتي منها توفر شروط العمل في من سيكلّف بالعمل: كالعقل، التخصص، الصحة بمفهومها العام، الثانية: "الأمانة" فلا يمكن أن يتولى عمل ولا يقوم به إلا من هو أمين يؤتمن؛ لأن الأمين لن يَسرق من وقته ولا اتقانه وبالتالي سنكون قد وضعنا الشخص المناسب في المكان المناسب، وسنُستخلف بحق، ونعمر بإحسان.
إذن الرّسالة السماوية تَخطّ لنا دور المرأة العظيم، وما يمكن أن تقدمه لو مُكّنت فهي أهلّ للتمكين، كما أنها تبين لنا كرامة الإنسان في أصله ذكرا كان أم أنثى وتنذر بالوعيد من يمس تلك الكرامة بما لا يُحمد، كما أن فحواها للجنسين، والعبادة والتعمير دور على مسؤولية الاثنين (الجنسين)، ومن يقم به على ما ينبغي جزاؤهُ: {يُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} (الفتح 5)
هذا الأصل فأين الإشكالية؟
الخلل أيها القارئ الكريم طارئ، ليس من تلك الأيام النورانية الإيمانية بحق، ولا من تلك الديار الفاضلة، فعندما تقدّم الزمن بمعشر المسلمين، وبدأ يمرح بأشكالٍ متهورة استجدت متغيرات مست الكثير من المعاني الراقية والقيم النبيلة، وبدأ يقسو أكثر فأكثر حتى بزغ من تشطط ومن تميّع وفي الحالتين أساؤوا للمرأة، والمشكل أن الواحد منهم يسيء لها باسم الدين أي إنه يقول بملء فيه: المرأة ليست كالرجل بالمطلق فهي بدءا ناقصة عقل، ومن ضلع أعوج (يعني بذلك التنقيص والدونية) وما فائدة تعليمها، وبحرمة ذلك وغيره كحرمة عملها، وانصهارها المجتمعي فمكانها العزلة بين جدران قاسية ومنها إلى الثرى، ووظيفتها بيولوجية، بيتوتية أكثر منها شيء آخر، هذا ما يخبر به الدين، ومن يتعدّ حدود الدين يتأذّ في هذه قبل تلك، وعلى ضوء هذا من داخل بيئتنا المسلمة تشكل من يعادي المرأة والحقيقة مرجع ذلك ومرده إلى جهله وقلة درايته؛ حتى وصل الحال من بعض هولاء إلى البحث عن أيّة نصوص تطمئن المرأة، وتثلج صدرها، وتشرح قلبها، وتفتح عقلها؛ ليتعرضوا لها بالطعن، ونعتها بالموضوعة، والفرية؛ فأي حديث يجلّ ويحترم المرأة ويعطيها مكانها المستحق ويُسلط الضوء على دورها المنوط بها تمتدّ إليه ألسنة التجريح غير المصونة، ومن يبثها تتصدى له ماكنة التبديع والتقريح ليغدو متمرداً عاقاً.
المرأة وحضارة اليوم
لا يمكن إنكار مسألة إنصاف الحضارات للمرأة، أو محاولة ذلك على الأقل، وعلى سبيل المثال حضارة اليوم حضارة (عصر التكنولوجيا والاتصال) رغم ما جنت على الإنسان بشكل عام من أضرار جمّة، وبالمرأة بشكل خاص كاعتبارها سلعة على ضوء مفاتنها تُدرّ ثروات طائلة، وألبِستها فردانية نتنة؛ إلا أنها أعطت للمرأة مكانة، من خلال تشريعها لقوانين، ولوائح تحترم المرأة وتمكنها مما سُلب منها على مر العصور كحقها الاقتصادي (العمل)، والسياسي (التسيير المؤسسي)، والاجتماعي (المكانة الاجتماعية) بالإضافة إلى أنها سعت جاهدة حيث قطعت شوطا لابأس به في المسألة الحقوقية النسائية فبسعيها الدؤوب أضحى لها حق المأسسة، حق قيادة المؤسسات العليا للبلاد، حق الرئاسة، حق قيادة الأحزاب، حق التسيير المؤسسي، حق التعلم، والتعليم، حق ريادة الأعمال، حق الظهور عبر وسائل الإعلام، حق الرأي حق ولوج المنظمات وتأسيسها بخلفيات شتى، حق تشريع القوانين.. إلخ إلخ إلخ، وهذا ما تفردت به حضارة اليوم وتجاوزت به حضارات أخرى يعود تأخرها، وتقصيرها إزاء ملف المرأة إلى جهلٍ نَخر في عقول ساستها، وعامتها.
التمكين سبيل التحرير
في ضروب الحياة قد تقسو الدنيا، وتتجبر، وتتنكر لإنسانها بشكل عام، ولكِ سيدتي بشكل خاص. الواقع مليء بقصص حزينة كئيبة تتحين أوقات وأماكن السرد الحكائي لتحك من صنوف البشر. شخصيتها الرئيسية (أنت الضحية) موضوعاتها: القسوة، الاضطهاد، التخلي، قلة الحيلة، النظرة الدونية، الإقصاء إلخ إلخ… كرّمك الله فكيف تبتلعين الإهانة، أو كيف تنحنين ليُسلب حقّ لك ثابت بقرار من علياء؟ قولاً واحداً:
أنت في أمسّ الحاجة إلى ثورة تبددين بها رومانسيات الحزن هذه، وكل تجليات الظلام، لتسردي بدلها سرديات ملحمية نصوصها حول التمكين، والعزة، والحرية، والمكانة، قصص أنت من يؤلّفها وأنت فيها الراوي، والمخرج، ولتجاوز ما وقع لك وما سيقع من ظلم، ولسلامة ذاتك وتحريرها من أي قيد وجبرٍ قد يكبلها أو يفرض عليها قوانين ما أنزل الله بها من سلطان ولا تستسيغها أي فطرة سويّة لا مناص لك من قضية التمكين، واليوم حظك منه أوفر من أيّ وقت مضى، وذلك راجع لانتشار العلم بشكل يفوق أي مرحلة سابقة، العلم منفرداً لك هو مصدر التحرر، والانطلاق نحو آفاقك المنشودة.
تعلمي حذارِ من أن تمكني قرار تعليمك لأيّة جهة، أو لأي كائن، ولو كان أقرب إليك من نفسك التي بين جنبيك. قرار تعليمك أمر متخذ منذ مدة، وحتى إن فاتك قطار الفرص التكنولوجيا اليوم مدّتك بعديد فرص التمكن بإمكانك أن تتعلمي وأنت جالسة على أريكتك الوفيرة، أو تختاري أي حِرفة تجعل منك متخصصة المهم أن يحرم الجلوس.
عليك بالقراءة، فهي ما يمكن أن يحرر عقلك من أي قيود ظلامية، وهي السبيل الضامن للتمكين، وتحرير العقل لا يعني إلا نشيد الحرية.
التمكين ليس قراراً مجرداً بل قرار تزفّه الحركة نحو وديان الاستقلال: طلب العلم، سوق العمل وهذا الأخير الذي حسب وقائع باذخة المأساة خطوة حتمية من خطوات التمكين بعملك أيّاً كان "حر، عمومي" ستشعرين بحلاوة الاستقلال، وإن زفّ لك الخبر المعتاد تكونين له بالمرصاد، كما أنه (التمكين) له مسار واحد قبل أي شيء داخل قرارة نفسك إن لم تمكني نفسك أولاً فلن يمكنك الغير، بمعنى المرأة التي تنظر إلى ذاتها على أنها دون الآخرين، فهذا في صريح القول إعلان منها بدونيتها، وقلة شأنها أما المرأة التي تنظر إلى نفسها على أنها كيان كامل له كرامته ومكانته وقدره، وأن الأصوات بتردداتها لا ترفع بحضرته كما يفعل هو بالضبط مع غيره، ولا يُهان، ولا يُسحل، ولا ينظر إليه بدونية هو كيان مكرم يستحق التكريم، والتقدير والتقديم، فالمرأة لو عرفت قدرها لما هانت ولا عانت ولا تذللت؛ أي إن الخلطة السحرية تكمن في معرفة قدركِ.
وفي الأخير، من منظوري الخاص ما يحول بينك وبين مسألة التمكين وسبب أي انتقاص من قدرك الرزين كرامة، أو أي امتهان يعود إلى أمرين أساسيين أولا الرضى والقبول: وهما تماهيك المنسجم مع القالب الذي رسمه لك غيرك لعديد غايات، تقمصك للشخصية الهشة بإتقان، وذلك ما جعلك تملقين حياة الهامش على أنها عيشتك المستحقة، ومكانك المناسب. ثانيا: جهل غيرك الذي مكّنه من رؤية أنّه من غير طينك وبالتالي هو الكامل في تصرفاته وسلوكياته، وأنت الناقصة، وكيف لا وتراثه الأبوي يخبره بذلك بفصاحة (الضّلع الأعوج). هو من له حق القرار، وأنت السمع والطاعة العمياء هو من له حق السلطة والتسلط وأنت لك حق العيش على الهامش تؤخرين ولا تقدّمين. السؤال إن بقي الجهلُ جاثماً دون تمكينك، فهل سيبقى منك الرضى والقبول؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.