كانت آنا جيروجيفنا في العشرين من عمرها عندما التقت دوستوفيسكي، الذي كان يكبرها بخمسة وعشرين عاماً، كان كاتباً شهيراً، يمر بأصعب فترات حياته، فقد توفيت زوجته وأصيب بالصرع، وكاهله مثقل بالديون، ما اضطره إلى أن يقبل عرض أحد الناشرين بسداد كل ديونه، مقابل الحصول على حق طباعة أعماله الكاملة لفترة محددة، بالإضافة لكتابة رواية جديدة ينتهي منها بنهاية العام، وإلا ذهبت حقوق نشر أعماله السابقة كلها إلى الناشر.
وافق دوستوفيسكي رغم انهماكه في كتابة رواية "الجريمة والعقاب"، التي كان أسيراً لها تماماً، ولم يُفق حتى أصبح بينه وبين موعد تسليم الرواية الجديدة إلا شهر واحد.
قرر دوستوفيسكي الاستعانة بآنا ككاتبة اختزال ليختصر وقت كتابة الرواية، وعلى مدار خمسة وعشرين يوماً كان يملي عليها أحداث الرواية، فتكتبها بطريقة الاختزال، ثم تعيد كتابتها كاملة في المساء.
أنهى دوستوفيسكي رواية "المقامر" في الموعد المتفق عليه، ونجا من خسارة محققة؛ لتنتهي بذلك جلسات العمل اليومية بينه وبين "آنا"، وبعد عدة أيام شعر بأنه يفتقد حنانها وتفاؤلها وقدرتها على بث الأمل فيه رغم صغر سنها، فأرسل إليها مدعياً مهمة عمل جديدة، وسرد عليها فكرة رواية مزعومة تحكي عن رجل يشبهه كثيراً، يريد أن يعرض الزواج على شابة صغيرة، وسألها هل يمكن أن تضحي الفتاة وتقبل الزواج من عجوز مريض أكله الحزن؟ لم تفهم "آنا" أنه يتحدث عنها، وأجابت بتلقائية: "وما وجه التضحية؟ إذا كانت تحبه فسيسعدها أن يطلب الزواج منها". تقول "آنا" في مذكراتها من تعبيرات وجه دوستوفيسكي فهمت أني المعنية بالسؤال، فبادرته وصارحته بأني أحبه.
لم تكتب "آنا" في مذكراتها ما قاله دوستوفيسكي وهو يطلبها للزواج، واكتفت بأن قالت: "تلك كلماتٌ حبيبةُ إلى نفسي، مقدسةٌ عندي، لا تخص أحداً سوانا".
من قرأ لدوستوفيسكي يمكنه أن يتخيل كم كانت تلك اللحظات لحظات ضعفٍ وهشاشة من كاتب مرهف الإحساس، عميق الفهم للنفس البشرية، لحظات ضعف صانتها حبيبته وزوجته، كلمات ثمينة ضنت بها على القراء؛ لأنها كما قالت صاحبتُها لا تخص سوى طرفيها.
لم يخذلها دوستوفيسكي، وعاشا نموذجاً فريداً للزواج الناجح القائم على الحب والاحترام المتبادل وقبول الاختلاف رغم فارق السن الكبير، فقد وهب كل منهما للآخر المساحة التي يحتاجها، وحرية أن يكون نفسه.
في عصر شبكات التواصل أصبحت كثير من قصص الحب ثلاثية الأبعاد "أنا وأنت والجمهور"، أصبح للحب بُعد استعراضي، يشي بأنه ناقص إن لم يكن مزيفاً، حب لا تنقصه فقط قدسية الحب وخصوصيته، ينقصه اكتفاء أصحابه به، ينقصه أن يداويهم من داء "الأحداث"، ومن ولع التفاخر ومن السعي لجذب الانتباه بأي ثمن، يعيبه أن للناس دوراً مقحماً عليه كمعجبين أو لاعنين أو حاقدين، لم يعد اهتمام من نحب وانتباهه لنا كافياً، لم يعد يسد فينا النهم إلى أن "نُرى" و"نُحب" و"نُفهم"، أصبحنا نتسول إعجاب الغرباء بأي ثمن.
الأمر ليس حديثاً، ففي مقدمة كتاب "رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان" كتبت غادة في مقدمة الكتاب؛ لتبرر نشرها تلك الرسائل: "أستجوب نفسي في لحظة صدق وأضبطها وهي تكاد تتستر على عامل نرجسي لا يستهان به: الفخر بحب رجل كهذا".
أذهلني صدق غادة مع نفسها، الفخر والولع بتمجيد الذات، كان أهم دوافعها لنشر خطابات خاصة، ترسم بدرجة كبيرة صورة لحب من طرف واحد.
الأمر قديمٌ إذن، تغيرت الأدوات لا أكثر، لا يحتاج عشاق هذا العصر أن يكونوا كُتاباً مشهورين، ليشاركوا العالم قصصهم العاطفية، الأمر أصبح أسهل كثيراً، وفي متناول الجميع.
وتبقى حقيقة أن الميول الاستعراضية غالباً لها علاقة بالنرجسية وحب الذات، والحب منها بريء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.