بماذا نسقي أرواحنا؟
يحكى أن رجلاً مسناً كان يحمل يومياً على ظهره إناءين مربوطين بعمود خشبي ويذهب لملئهما من النهر ثم يعود لمنزله، وفي أحد الأيام أوقفه أحد رجال القرية ليفهم منه سر احتفاظه بإنائه المشروخ، بل ووضع الماء به وحمله كل يوم رغم أنه يفقد نصف كمية الماء التي وُضعت به تقريباً في الطريق، فأجابه الرجل المسن الحكيم: يا بني قد لاحظت أن الإناء به شرخ، وأنه يفقد معظم ما به من الماء خلال الطريق، ولكن انظر جيداً سترى أن جانب الطريق الذي أمر خلاله وأنا أحمل الإناء المشروخ قد نبت به الزرع والأزهار الجميلة، على عكس الجهة المقابلة للإناء السليم، وهذا لأني وضعت البذور على هذا الجانب، وأثناء مروري كل يوم من هنا كنت أسقي تلك الزهور بالإناء المشروخ، فقطرات الماء تلك التي تتساقط يومياً لم تكن تضيع حين تسقط، وإنما كانت سر الحياة لتلك الازهار لتنمو وتزدهر.
إن كانت قطرات الماء البسيطة صنعت هذا الفارق على أحد جانبي الأرض الصلبة، فأخرجت بإذن الله من بين أحشائها زهرة جميلة يتمايل عودها، فماذا تفعل عاداتنا اليومية، وما نسمعه وما نشاهده وما نقرأه في أرواحنا وعقولنا وأفكارنا، أيّ فارق تصنعه، وهل يكون يا تُرى هذا الفارق للأفضل أم للأسوأ؟
لا يجب الاستهانة بقوة العادات التي قد نفعل الكثير منها دون وعي، بل من حق أنفسنا علينا أن نختار لها أفضل ما تُروى به لتنمو وتزدهر وتصبح أفضل، فنحن كذلك بداخل كل إنسان بذرة خير يجب أن تنبت، ولكن علينا أولاً أن نسقيها، فاختر لنفسك ما تريد أن تسقي به روحك العطشة، فالعصر الرقمي الذي نحيا به يوفر لنا الكثير من المعلومات وبأشكال ووسائل مختلفة، يأتي دورك ومسؤوليتك في اختيار ما تحيط به نفسك، ما ستسقي به بذرتك من أفكار ومعلومات، التي إما أن تكون أفكاراً هدامة، بلا فائدة، سامة تميت تلك البذرة، فلا تكون صالحة أو ترويها بعلوم ومعارف وخبرات ومهارات تنمو بها تلك البذرة، لتصبح شجرةً وارفة الظلال يُقطف من خيرها.
هل أنت الطاهي أم وعاء الطهي؟
الإنسان كالوعاء يطهي ما يُوضع به، فبيئتك، أصدقائك، ما تقرأه أو تشاهده وكل ما تمر به يؤثر بشكل أو بآخر بك، يُطهى بداخلك لينضج ويكوّن سلوكك وأفكارك واختياراتك.
ولكن لحظة.. هذا لا يعني أنك بلا إرادة، ولكن إن لم يكن لديك الوعي الكافي والتسلح بالعلم للنقد والتفكير وفلترة ما يعرض أو يقال لك، ستكون مجرد وعاء، وأداة في أيدي الآخرين يوجهونها حيثما أرادوا، وعلى العكس بإمكانك أن تكون الطاهي الذي ينتقي أطيب الثمر وأهم المكونات لطبخته المرجوة.
قدم علي بن الجهم على المتوكل- وكان بدويّاً جافياً- فأنشده قصيدة قال فيها:
أنت كالكلب في حفاظـك للـود… و كالتيس في قراع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمنـاك دلـواً… من كبار الدلا كثيـر الذنـوب
فعرف المتوكل قوته، ورقّة مقصده، وخشونة لفظه، وذلك لأنه وصف كما رأى، ولعدم المخالطة وملازمة البادية. فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة فيها بستان يتخلله نسيم لطيف والجسر قريب منه، فأقام ستة أشهر على ذلك، ثم استدعاه الخليفة لينشد قصيدة مطلعها:
عيون المها بين الرصافـة والجسر … جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
خليلـي مـا أحلـى الهـوى وأمـره… أعرفنـي بالحلـو منـه وبالـمـرّ!
على الرغم من أن علي بن الجهم هو الشاعر ذاته، فإنه شتان بين ما أنشده في المرتين من حيث عذوبة الكلمات وجمال التعبيرات، وهذا وإن دل فإنه يدل على مدى تأثير البيئة التي يكون بها الإنسان على كلماته وأفكاره وسلوكياته.
والمقصود بالبيئة التي بها الإنسان لم يعد مقتصراً في هذا العصر على مكان النشأة أو الإقامة فقط، فالإنسان قد لا يختار مكان مولده، ولا المكان الذي يعيش به، لكن في ظل التطور التكنولوجي والعصر الرقمي الذي نحيا به توسَّع مفهوم المجتمع والأصدقاء وغيرها من المصطلحات، فأصبح هناك مجتمع افتراضي يتيح لكل فرد أن يختار مَن وما يحيط به، ففي هذ الوسط الافتراضي أنت مَن يختار الأشخاص الذين تتابعهم، وتختار المحتوى الذي تتعرض له، وأنت مَن تختار أصدقاءك الذين ستشاركهم ويشاركونك الأفكار والاهتمامات.
فعلى سبيل المثال وسائل التواصل الاجتماعي تمنحك اليوم ميزة أن تتناقش مع الأدباء والعلماء أو المشاهير بشكل عام، من خلال البث المباشر، كما بإمكانك معرفة أفكارهم والتعليق عليها من خلال ما يُنشر على صفحاتهم، لكن احترس! فالتكنولوجيا تتيح الشيء وضده، وتترك لك حرية الاختيار، وهنا يظهر وجهان لعملة واحدة، هما الحرية التي تُتِيحُها التكنولوجيا، والشعور بالمسؤولية بداخل كل منا.
هل نتأثر بمن نُجالس؟
عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنِّما مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وجَلِيسِ السُّوءِ، كَحامِلِ المِسْكِ ونافِخِ الكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ إِمَّا أنْ يَحْذِيَكَ وإِمَّا أنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وإِمَّا أنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحاً طَيِّبَةً، ونافِخُ الكِيرِ إِمَّا أنْ يَحْرِقَ ثَيابَكَ وإِمَّا أنْ تَجِدَ رِيحاً خَبيثَةً"، متفق عليه.
هواتفنا لا تكاد تفارقنا، فنحن جلساؤها معظم الوقت، فهل انتفعنا بها، هل سخّرناها لتطوير أنفسنا ونشر ما يفيد ونصرة الحق.
لنأخذ وقفةً مع أنفسنا ونفكر قليلاً بماذا نحيط أنفسنا في هذا المجتمع الافتراضي؟ من هم أصدقاؤنا؟ كيف نقضي وقتنا، رصيد أعمارنا الذي يتناقص هل نحيط أنفسنا بأصحاب المحتوى الهادف علماء، ومفكرين، وشخصيات ناجحة تشاركنا تجاربها، أم بأشياء أخرى نحاول بها أن نضيع أوقاتنا… لا تسرف كثيراً بوقتك فدقيقة من حياتك هي عملة صعبة لن تستطيع تعويضها.
دقاتُ قلبِ المرءِ قائلَة له
إن الحياةَ دقائقٌ وثواني
فأرفع لنفسِك قبلَ موتِك ذكرَها
فالذكرُ للإنسانِ عمرٌ ثاني (أحمد شوقي)
تذكّر دائماً أن كل وسط تدخل فيه ينال منك بشكل أو آخر، فالغطاس المحترف يغوص في أعماق البحار، فيخرج وقد ابتلت بذلته، والبسكويت عندما نضعه في الشاي يفقد صلابته، كذلك أنت، تأمّل في أي وسط تُقحم نفسك، لأنه لا بد سينال منك، حدِّد غايتك لتُحسن اختيار الوسيلة والدرب الذي يوصلك.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.