مسلسل لم يحظ باهتمام إعلامي كبير، ولم يأخذ حظاً وافراً من مناقشات وسائل التواصل الاجتماعي مثل تلك المسلسلات التي عرضت معه وأثارت جدلاً واسعاً، مثل الاختيار أو فاتن أمل حربي لطبيعتهما السياسية أو الدينية الشائكة، مع أن مسلسل جزيرة غمام يكاد يكون من أعمق المسلسلات التي عُرضت خلال الفترة السابقة، فرغم أنه مفعم بالرمزية إلا أنه محاولة صادقة لتشخيص مشكلات الواقع المصري، بل العربي، بدقة مبضع جراح.
بدأت الأحداث بزيارة الرئيس السادات إلى جزيرة أولاد عرفات التي تطل على البحر الأحمر والقريبة من القصير، فما كان من شيخ المسجد إلا أنه استأذن الرئيس السادات أن يقص له قصة تلك الجزيرة التي كانت في أوائل القرن الماضي تسمى بجزيرة غمام، ابتدأت الحكاية من بيت بسيط فيه الشيخ مدين يصارع الموت وحوله ثلاثة من تلاميذه عرفات ويسري ومحارب، وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة أسرّ لعرفات بكتاب، ثم أعطى يسري بيته وهو كل ماله، وأعطى محارب مكانته المشيخة، ثم جاء أمامهم جمعياً وأعطى عرفات سبحته، وبدا لهم أنها قسمة ضيزى في حق عرفات الذي ليس له بيت ولا زوجة ولا مال، على عكس يسري ومحارب.
وكان لتلك الجزيرة كبير اسمه العجمي عليه مهابة ووقار رجل دين، وله نفوذ واسع وسلطة على رقاب الكل، وساعده الأيمن البطلان. ولم نكد نتعرف على تلك الشخصيات إذ تحط على شاطئ هذه الجزيرة مراكب تحمل خلقاً كثيراً من "الغجر" بزعامة خلدون والعايقة، في محاولة منهما للسيطرة على أهل تلك الجزيرة وبسط نفوذهما، ظناً منهما أنها تحوي كنزاً وسراً كبيراً لا يعلمه أحد.
لقد أبدع الكاتب عبد الرحيم كمال أيما إبداع في البناء الدرامي للقصة، والكشف المتدرج عن الشخصيات التي كلما انقضت حلقة باحت بجزء يسير من مكنوناتها، دون أن تدع لك الفرصة كمشاهد أن تسبر أغوارها بالكلية، بل تنتظر التي تليها أسيراً لذلك الشغف الذي يتملكك لمعرفة ما هو آتٍ، وجدير بالذكر أن من حسنات المؤلف -وهي كثيرة- اختياره شديد العمق لأسماء الشخصيات التي تعطيك طرف الخيط نحو مزيد من الفهم، فعلى سبيل المثال لا الحصر:
اسم الشيخ مدين: ممثل الدين والشرع، ومرجع الفقه وقاضي الحاجات في الجزيرة، وأعتقد أنها من باب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الضعيف: "أنا مدينة العلم، وعلي بابها".
أما شخصية الشيخ محارب، وهو تلميذ الشيخ مدين الذي ورث عنه المشيخة وإمامة المسجد، فظن نفسه أنه الناطق باسم الشرع، والوصي على رقاب العباد بحكم الدين، يفتعل المشكلات ويحاول تجنيد الشباب في خدمة أغراضه، ظناً منه أنه يحارب منافحاً عن الدين، فيذهب كل مذهب لفرض سلطته على رقاب أهل الجزيرة، بالكلمة تارة والقوة تارة أخرى، حتى إنه يدخل في صراع نفوذ مع الحاكم نفسه.
شخصية الشيخ يسري
اتخذ مذهب التيسير المبالغ فيه والتسهيل حد التفريط، حتى إنه جعل من الدين مطية لتخدم رغباته الجنسية من نساء القرية التي تطلب منه عمل أعمال وسحر من باب تقريب الحبيب والرزق بالولد، يعيش في كنف السلطة الحاكمة، ويقدم لها فروض الطاعة والولاء.
شخصية الشيخ عرفات: شخصية عارفة بالله، عالم في غير تكلف، يأكل من عمل يده، فهو نجار، لا يناطح السلطة، ولكن لا يقول إلا الحق، ولا ينطق إلا حكمة، يريد الخير، ويصب اهتمامه على أطفال الجزيرة، يزرع فيهم الحب والإيمان والإنسانية.
شخصية خلدون: يمثل الشيطان الذي يسخّر كل الإمكانيات والأدوات لنشر الرذيلة وإبعاد أهل الجزيرة عن أعمالهم ودينهم، وما أظن اسمه إلا من الخلود التي هي صفة ملازمة للشيطان لقول الحق سبحانه: (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) [الحجر: 36 – 38].
شخصية العايقة: عادة ما تطلق على السيدة التي تبالغ في ارتداء ملابس غير محتشمة للفت الانتباه، أو تضع مساحيق تجميل على وجهها بكثرة لجذب الأنظار، وهنا يطلق عليها أهل الحارة فلانة "عايقة"، ومعناها "اللعوب". وهي تمثل فتنة النساء، وهي أداة من أدوات خلدون للإيقاع برجال الجزيرة.
شخصية العجمي
وهذا الاسم الذي له وقع شديد على النفس؛ يثير الخوف وينشر الرهبة في الأرجاء، ولقد أخذتني الحيرة لبرهة وأنا أفكر لماذا سماه بهذا الاسم؟ حتى جاء في ذهني أن العجمي: هو غير المفهوم؛ لأنه عكس العربي الواضح المفهوم، وفعلاً شخصية ذلك الحاكم صاحب النفوذ والسلطة القضائية والتنفيذية، وحتى التشريعية في الجزيرة، لا تقدر على الإمساك بها؛ فهو رجل متدين، يأخذ بنصح الشيخ عرفات، يميل إلى الخير والحق والعدل، ولكنه في الوقت نفسه متزوج سراً من هلالة، ومساعده الأقرب هو البطلان الذي يتمثل فيه الباطل الصرف، قد لا يوافق على الكثير من مشوراته، ولكنه يستمع إليه بإنصات ويحرص على قربه.
أداء الممثلين
وفي الأداء جل الممثلين من وجهة نظري قد أجادوا في أداء أدوارهم، وأبرزهم رياض الخولي بدور العجمي، وفتحي عبد الوهاب في دور محارب، ومحمد جمعة في دور الشيخ يسري، ومحمود البزاوي في دور بطلان، ولكن أحمد أمين في دور عرفات هو حالة من التفرد والإبداع اجتمعتا في آنً معاً، تلبّس بالشخصية فصار هو منها وهي منه، أول ما وقعت عليه عيني في حضرة الشيخ مدين آمنت أنه تراجيديان قدير، وُلد للدراما على عكس عمله ما وراء الطبيعة، الذي ظللت لحلقات غير مقتنع أنه يناسبه، وأنه سيضحكنا بغتة، ولكن ساعده هذه المرة ملامح وجهه الطفولية الطيبة، وبراءة الجانب، وقدراته الهائلة على الإمساك بالشخصية، كل ذلك قادني بغير إرادة إلى أن أنتقل بسلاسة من أحمد الكوميديان القدير إلى أحمد التراجيديان العميق، ولكن ظل عقلي في مقارنة ما بين شخصية عرفات وشمس التبريزي في "قواعد العشق الأربعون"، وأعتقد أن هذه المقارنة تحسب لصالح شخصية عرفات قطعاً.
ولم يكن الإبداع حليفاً لأحمد أمين وحده، بل شاركته فيه أيضاً مي عز الدين التي تلعب دوراً جديداً عليها بالكلية، فهي العايقة التي تقع في صراع نفسي شديد بين أن تبقى في ظلمة خلدون أو ترحل إلى النور بصحبة عرفات، بين أن تظل العايقة محملة بكل الآثام والشرور، أو تعود إلى براءة الطفلة نوارة التي بداخلها.
وإذا ذكرنا هنا المبدعين فالأولى ذكر خلدون "طارق لطفي"، الذي لعب دوره بحرفية شديدة، وأزعم إذا كان للمثل جهد قبل التمثيل والأداء فهو قراءة الورق وفهم الدور ومآلاته وتأثيراته على سير الأحداث، فطارق لطفي قد آمن في داخله أنه قادر على أن يجسد خلدون، ذلك الشر المحض، ففعل باقتدار، وجعلك في الوقت الذي تكره فيه الشخصية كرهاً شديداً، ترفع القبعة وتصفق بحرارة لذلك الأداء الرائع؛ لأنه يذكرك بإحساس أل باتشينو في فيلم محامي الشيطان.
ورغم إعجابي الشديد بالعمل إلا أنني سجلت عليه أيضاً بعض المآخذ والملاحظات، وأرى أنه كانت هناك بعض الهنّات هنا وهناك، نذكر منها:
أولاً: الأحداث بطيئة جداً، وكأنها كُتبت على الورق لتكون 15 حلقة ولكن تقرر أن تُمد إلى 30، فنتج عن ذلك رتم الأحداث البطيء، ولكنه لا يصل إلى الملل.
ثانياً: في المناظرة التي وقف بها عرفات أمام يسري ومحارب كانت المحاورة بديعة في الأسئلة، وردود عرفات معجزة للطرف الآخر، ولكن مع بداية الفتنة وانقسام الناس وقف عرفات يحذر الناس من الزوبعة التي أخبره عنها شيخه مدين، واسترسل أخذاً بألباب الحضور يخبرهم أن ما يحدث هو فتنة كبيرة ستغرق الكل، ثم من غير مقدمات بكى وتنهنه، فالبكاء ضعف وهو في مركز القوة، فلم أستسغ ذلك.
ثالثاً: ملابس العايقة التي كانت جميلة وتصميمها قريباً من واقع الشخصية الغجرية وألوانها المبهرجة، في غير كشف المفاتن، ولكن لو كانت في الحلقات الأولى بالأسود الغالب كما فعل المخرج لأنها في أكناف الشر قابعة تحت ظلمة خلدون، ثم يتدرج بالألوان فيقلل اللون الأسود ويدخل الأخضر كلما اقتربت من نور عرفات حتى يكون في نهاية الحلقات أخضر صرفاً عندما تعثر على نوارة أو النور بداخلها، مثلما حدث في قميص أنسيل ألجورت Ansel algort في فيلم Baby driver.
رابعاً: شخصية هلالة التي تقوم بها وفاء عامر، لم أجد لها تأثيراً في الأحداث، ولا تخدم الدراما، فلو جاء أحد وشطب ذلك الدور من السكربت المكتوب لن يتأثر العمل، ولعله كان قصيراً وطال عن عمد عندما أُسند إلى فنانة كبيرة من باب المجاملة.
خامساً: عمد المخرج إلى أخذ منظر فوقي للجزيرة، وهذا ليس عيباً أن يكشف لنا الجزيرة بعين الصقر، ولكن العيب أنه تكرر عدة مرات ولم أجد له ما يفسره، فكان التصوير الجوي في "بارباروسا" المسلسل التركي لأنها تحتوي على مدن ساحلية كثيرة، وكذلك في "لعبة الممالك أو صراع العروش" Games of thrones المسلسل الأمريكي لأنه ينتقل بين عدة ممالك، فهي توطئة وتمهيد للمشاهد بدلاً من صدمته في الانتقالات المفاجئة، ولكن في جزيرة غمام، كان مكاناً واحداً، فلماذا تكرار الصورة العلوية للجزيرة؟!
ولكن ذلك كله لا يقلل من قيمة العمل؛ فهو من أرقى وأجود الأعمال المصرية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.