أراد الناس قديماً أن يعظموا رجالاً كانت لهم مكانة عالية في مجتمعاتهم، فبلغو حداً من المبالغة لا يُعقل، فعلى سبيل المثال أراد بعض الناس أن يعظموا من قدر الإمام أبي حنيفة النعمان في نفوس الناس عامة ونفوس المجادلين له والمحاربين لمنهجه، فادَّعوا أنه صلى الفجر 40 سنة بوضوء العشاء، ونسوا أن ذلك غير منطقي بالمرة.
وأراد بعض من أتباع شيخ الإسلام ابن تيمية أن يعظموا قدر الرجل في العلم، فادَّعوا أنه استخرج 70 خطأ من كتاب سيبويه الذي يفصله عن ابن تيمية عدة قرون، ونسوا أن سيبويه الرجل الأول في صنعته، ومات قبل شيوخه الذين وضعوا قوانين علم "النحو"، كالخليل بن أحمد الفراهيدي وحماد البصري وغيرهما، ولو كان أحد مكتشفاً خطأ فالأولى أن يكون في حزمة العلماء الذين وضعوا أسس العلم، وإلا لكان سُبة في جبين العلم والعلماء أن تكون هناك أخطاء بهذه الكثرة، ومرت على مئات بل آلاف العلماء الذين أخذ عنهم ابن تيمية نفسه العلم.
وتريد الأم أن تكيد جارتها فتردد في كل مجلس أن ابنتها أجمل الجميلات، وأنعم الناعمات، وسيدة البنات، في حين أن الناس يرون ابنتها في غدوها ورواحها، ولن يكون بمقدور أحد أن يثنيهم عن الحكم الذي يختارونه في ابنتها.
أحياناً يبالغ الأب والأم في التضييق على الطفل، ظناً منهما أن هذا هو السبيل لتنشئته تنشئة سوية، ولا يدريان أن الطفل ربما يختزل كل هذا التسلط، حتى إذا كبر انفجر في وجهيهما واكتشفا أنهما أمام إنسان جديد لم يسبق لهما رؤيته من قبل.
لا تأتي المبالغة في الأقوال والأفعال والمشاعر بخير، وما الذين لا يفارقهم الإحباط وخيبات الأمل والحزن المستمر إلا لأنهم مبالغون في مشاعرهم، إن أحبوا أحبوا بقوة، وإن كرهوا كرهوا بحدة، لم يتأملوا في القول الجميل : أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما ، ليقوا أنفسهم من مغبة الوقوع في قاع الندم.
إن أخطر ما في المبالغة أنها تدفع أصحابها لتبني تصورات مغلوطة، لأنها في الأصل أسست على قواعد مهترئة، ومن ثم يأتي التعاطي مع الآخرين مشوباً بالخلل والفشل.
وأصل داء المبالغة نابع من البيت ابتداءً، مروراً بالمدرسة، وصولاً لعموم التفكير الاجتماعي، ذلك لأننا في داخل بيوتنا نتعامل مع الأطفال بأساليب غير سوية في المواقف المختلفة؛ أساليب تفتقر لتنمية القدرات الذاتية التي تعزز ثقة النشء بنفسه، بما يساهم في تخفيض حدة المشاعر السلبية، كما أننا في المجمل لا نحسن ضبط مسألة الثواب والعقاب، ومسألة الاستشهادات بالنماذج التي ترسِّخ في أذهانهم أن الدنيا خالية من العيوب والمشكلات، وحينما يخرجون إلى الشارع ويشرعون مجبرين في التعامل مع كل البشر، لا يتوقفون عن إبداء الاستغراب وعلامات التعجب.
أقول هذا ولا أعفي نفسي من المبالغة أحياناً في مشاعري وأقوالي وأفعالي، ومن ثم فلم أكتب من باب التنظير أو المثالية، لكن ربما تأتي الكلمات في إطار من رأى من نفسه ضعفاً، فأحب ألا يراه في الآخرين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.