بعد تغيير سياسة الفائدة ومرور شهرين على تولي شيمشيك.. إلى أين يتجه الاقتصاد التركي؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/08/24 الساعة 11:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/08/25 الساعة 08:54 بتوقيت غرينتش
وزير المالية التركي محمد شيمشيك / رويترز

مرَّ شهران منذ تولى الفريق الاقتصادي الجديد في تركيا مهامه وأحرز بعض التقدم. ففي عهد وزير الخزانة والمالية الجديد، محمد شيمشك، والمحافظة الجديدة للبنك المركزي التركي، حفيظة جاي إركان، بدأ السوق يعود إلى طبيعته وتراجعت مخاطر حدوث أزمة في ميزان المدفوعات. ورفعت المحافظة الجديدة أسعار الفائدة بأكثر من الضعف منذ تعيينها في يونيو/حزيران، في حين رفعت الحكومة الضرائب وتعمل على خفض الواردات في إطار خطة للعودة إلى السياسات الاقتصادية "العقلانية".

فبدلاً من تطبيق سياسة تقليدية لأسعار الفائدة، ينصب التركيز على محاولة اكتساب المزيد من المصداقية عن طريق تعيينات جديدة في الإدارة العليا للبنك المركزي التركي. وتم تعيين ثلاثة نواب جدد لمحافظة البنك، جميعهم من ذوي الخبرة -أحدهم كان يعمل في بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي- نهاية الشهر الماضي. وفضلاً عن أداة أسعار الفائدة، خضعت سياسة الائتمان أيضاً لتعديلات كبيرة بتبسيط القواعد التنظيمية للبنوك وتحرير أسعار الفائدة التي يمكنها طرحها على عملائها جزئياً. وبتعاون البنك المركزي التركي مع هيئة التنظيم والرقابة المصرفية (BRSA)، رُفع سقف أسعار الفائدة على القروض التجارية من 29% إلى قرابة 38%. وبلغ سقف فوائد القروض المقدمة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة والمزارعين والمصدرين ورجال الأعمال للمرافق الاستثمارية الجديدة 30%. وتحوم القروض الاستهلاكية بالفعل حول 50%، ورغم انخفاض معدلات فوائد الرهن العقاري، فأحجام قروضها محدودة مقارنة بأسعار المنازل. وكل هذه الحدود ستُرفع قليلاً بعد تنفيذ المزيد من بنود سياسة رفع أسعار الفائدة.

وكل هذا له تأثير مختلط. فمن ناحية، أصبحت القروض بلا شك أغلى مما كانت عليه قبل انتخابات مايو/أيار عام 2023. ولكن بعد فرض هذه الحدود القصوى الجديدة، قد ينتهي تقنين الائتمان بين البنوك الخاصة، وقد تؤدي زيادة الإقراض إلى تقويض السياسة النقدية الانكماشية الموعودة التي تهدف إلى محاربة التضخم. ومن ناحية أخرى، لا تزال عوائد السندات الحكومية منخفضة بما يتراوح بين 15 و20%، واحتمال عودة سوق السندات إلى طبيعتها ضعيف مع ارتفاع عجز الميزانية بدرجة كبيرة.

الاقتصاد التركي
محمد شيمشك

ارتفاع التضخم وإجراءات السياسة المالية

في نهاية شهر يوليو/تموز، عدّل البنك المركزي التركي توقعاته للتضخم نهاية العام إلى 58%، في ارتفاع حاد عن نسبة 22.3% قبل ثلاثة أشهر فقط. وبحسب البنك المركزي، سيبلغ التضخم ذروته عند حوالي 70% في النصف الأول من عام 2024، بعد الانتخابات المحلية. وارتفع مؤشر أسعار المستهلك الشهري بنسبة 9.5% في يوليو/تموز وارتفع التضخم السنوي من 38.2% إلى 47.8% في شهر واحد. وهذا الارتفاع جاء نتيجة الزيادات المرتفعة غير المتوقعة في الأجور وتأثير هذه التغيرات في سعر الصرف على الأسعار المحلية للسلع القابلة وغير القابلة للتداول الخارجي.

ونتيجة للتكاليف المرتبطة بالزلزال المزدوج الذي وقع في فبراير/شباط 2023، تحقق عجز في الميزانية بنسبة 10% من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية 2023. ولإبطاء الارتفاع المطرد للدين العام، نُفذت زيادات ضريبية إضافية في مسودة ميزانية تكميلية في يوليو/تموز عام 2023، إلى جانب 42 مليار دولار من الإنفاق الحكومي الجديد لبقية العام. ورُفعت معدلات الضريبة على الشركات بنسبة 5% لتصل إلى 30% للمؤسسات المالية و25% للشركات في القطاعات الأخرى. ورُفعت ضريبة القيمة المضافة أيضاً بنسبة 2% إلى 20% للسلع والخدمات. وتضاعفت ضريبة الثروة على المركبات الآلية لعام 2023 أيضاً، كإجراء مؤقت. لكن الارتفاع الأهم كان في ضريبة الاستهلاك الخاصة على البنزين والديزل بنسبة 20% تقريباً. والمتبقي من الإنفاق سيُموَّل من ديون جديدة وتوسع نقدي. وقد تُسن زيادات ضريبية أخرى في ديسمبر/كانون الأول عام 2023 لميزانية عام 2024. فمن الضروري اتخاذ إجراءات جادة لكبح جماح عجز الموازنة، لكنها ستُنفَّذ على الأرجح بعد الانتخابات المحلية عام 2024.

ويهدف فريق الإدارة الاقتصادية الجديد إلى تمديد استخدامها حتى الانتخابات المحلية. ولتحقيق هذا الهدف، خُففت بعض القيود على رأس المال وخُفضت قيمة العملة المحلية بنسبة 35%. وانخفضت نسبة مبادلة مخاطر الائتمان، وهي مقياس لخطر عدم قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها بالعملة الصعبة، سريعاً من 700 نقطة أساس إلى 390 نقطة أساس بفضل هذه الإجراءات. وارتفع صافي احتياطيات الذهب والعملات الأجنبية المملوكة مباشرة للبنك المركزي التركي من -76.6 مليار دولار إلى -60.4 مليار دولار.

البحث عن النقد الأجنبي من الخارج

وتعوِّل تركيا على مقاربة جديدة في السياسة الخارجية للتماشي مع الخطوات الرامية إلى تعزيز اقتصادها. وفي هذا السياق، فإن إعادة النظر في مسارات السياسة الخارجية جزء من تغييرات أوسع نطاقاً أجراها أردوغان بعد ستة أسابيع من إعادة انتخابه، وتضمنت تعديل المسار الاقتصادي، والارتداد عن السياسات المالية غير التقليدية التي عُزي إليها التضخم الجامح في تركيا وانهيار قيمة العملة. ومن ثم، تريد تركيا أن يكون للاتحاد الأوروبي دورٌ في مسار التعافي الاقتصادي. والتصريحات الرسمية بأن "دعونا نعيد إحياء العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي" هي طريقة غير مباشرة لقول ذلك.

تسعى تركيا للخروج من الركود الاقتصادي، وإنعاش الاستثمار الأجنبي في البلاد. لكن لما كان توتر العلاقات مع الغرب له تأثير سلبي على الاقتصاد وتدفقات الاستثمار، فقد بات من الأهمية بمكانٍ تطبيع العلاقات وتعزيز السبل اللازمة لجذب تدفقات رأس المال إلى البلاد. وقد بدأت تركيا في جذب الاستثمارات العربية الخليجية، لكنها ذكرت أنها بحاجة إلى المزيد.

وفي ظل الموجة الجديدة من التضخم وعجز الميزانية، فإن هذا المزيج من السياسات الاقتصادية لا يمكن السماح باستمراره حتى الانتخابات دون تدفق نقدي خارجي. وحتى الآن، بلغ إجمالي التدفقات إلى سوق الأوراق المالية ملياري دولار فقط، والطلب ضعيف على السندات الحكومية لأن عوائدها لا تزال منخفضة للغاية إذا قيست إلى معدلات التضخم القائمة والمتوقعة والمستهدفة.

ولهذه الأسباب كلها، فإن السعي إلى قنوات تمويل جديدة أمر ضروري، وقد بدأ أردوغان يستحث الخطى في البحث عن تدفقات مالية أخرى من دول شريكة، مثل قطر والسعودية والإمارات وروسيا. وفي هذا السياق، لا تزال شركة "بوتاش"، مستورد الغاز الطبيعي الحكومي في تركيا، تتلقى الدعم بتأجيل مدفوعاتها المستحقة لشركة "غازبروم" الروسية. وتعهدت الإمارات باستثمار 50,7 مليار دولار في الأصول التركية، وقد ورد أن ذلك يتضمن عروضاً لشراء سندات تركية مقومة بالدولار بقيمة 8.5 مليار دولار. ووقعت شركة "بايكار" العسكرية التركية صفقة كبرى لبيع طائرات مسيَّرة إلى السعودية، ويُقال إنها أكبر صفقة في تاريخ الصناعات العسكرية التركية، وتشمل الإنتاج المشترك ونقل التكنولوجيا. وقالت جمعية المستثمرين الدوليين في تركيا إن أعضائها يخططون لضخِّ استثمارات مباشرة بقيمة 7.1 مليار دولار في تركيا خلال الأشهر الستة المقبلة.

ويبدو حتى الآن أن هذه الاستراتيجيات تؤتي ثمارها، إذ أسفرت عن "تصاعد" في اهتمام المستثمرين بالأصول التركية؛ وتدفقات من الاستثمار الأجنبي المباشر من دول مجلس التعاون الخليجي، والتي يُتوقع أن ترتفع خلال السنوات الثلاث المقبلة؛ فضلاً عن تزايد الإقبال على صفقات الأسهم والسندات التركية. وتظهر جميع هذه المعاملات ثقة المستثمرين بتركيا والجهود المبذولة في تنفيذ سياسات الاقتصاد الكلي السليمة. ومن المفترض أن تدعم الاستثمارات طويلة الأجل في تركيا هذه السياسات، وتساعد في استقرار الليرة، وتؤدي إلى تخفيف تدريجي لحدة التشديد المالي والنقدي وتأثيراته التي بدأت تظهر على معدلات النمو الاقتصادي للبلاد.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

رحمي إنجة كارا
باحث اقتصادي تركي
الأستاذ المساعد والباحث لدى مركز الشؤون الدبلوماسية والدراسات السياسية (DİPAM)
تحميل المزيد