"الحرب لا تحل أية مشكلة، لكنها تولد مشاكل جديدة أكثر خطورة". قول لرئيس الامريكي السابق ريتشارد نيكسون يتماشى فعلياً مع ما نعيشه اليوم، في ظل حرب لم يكن أسوأ المتشائمين فيها يتوقع أن تستمر لأكثر من شهرين، لكن واقعياً فالعالم في حالة استنفار منذ أكثر من 18 شهراً من الصراع والمعارك الضارية بين القوات الروسية والأوكرانية، والتي زادت حدتها خلال الأيام القليلة الماضية، في تصاعد لافت في نسق المعارك المحتدمة والتي وصل صداها إلى موسكو، فأصبح من الطبيعي أن تشن أوكرانيا هجمات على العاصمة الروسية، رغم أنها حتى الساعة لم تنجح في اختراق الدفاعات الروسية بالشكل الصحيح.
وبين الصد والرد، تحاول أوكرانيا الاستمرار في هجومها المضاد الذي شنته منذ أشهر، وفي خضم هذا الهجوم يشاع هنا وهناك، أن أوكرانيا فشلت في هذا الهجوم ولم تستطع الصمود أمام الدفاع المنيع للقوات الروسية على طول محور زاباروجيا، رغم دفعها بأولوية قتالية وأسلحة غربية متطورة، وفشلت في اختراق أي محور، بل إنها خسرت مزيداً من الأراضي في باخموت ودونيتسك وأقاليم أخرى، لكن النقطة الأبرز التي فشلت فيها أوكرانيا، بحسب معطيات الواقع الحربي، هي الوصول إلى مدينة ميليتوبول التي تحظى بأهمية خاصة في الهجوم الأوكراني المضاد؛ لأنها تُعد البوابة إلى شبه جزيرة القرم، فضلاً عن أنها تقع على نقطة تقاطع طريقين سريعين مهمين مع خط سكة حديد، ما يسمح لروسيا بنقل أفراد ومعدات عسكرية من شبه الجزيرة إلى أراضٍ محتلة أخرى في جنوب أوكرانيا.
واقعياً وإن سلمنا بواقعية فشل أوكرانيا في الهجوم المضاد كما يشاع، فهذا ربما يحتم عليها الرضوخ لأمر إنهاء الحرب وقبول التفاوض والاعتراف بالوضع القاسي وقبول شروط روسيا، لكن ذلك لم يحدث، فالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يتجول بين العواصم الأوروبية بحثاً عن المزيد من الأسلحة، وهو ما تم له، بعد وعود تلقاها من هولندا والدنمارك بتسليمه عدداً من طائرات "إف-16" المقاتلة، والتي من المنتظر أن تشكل العلامة الفارقة في ميدان الحرب، ما يعني أننا سنرى فصلاً جديداً من فصول الصراع المستمرة، وليس مفاوضات للسلام، وبهذا تكون المواجهة التي يمكن تسميتها "حرباً مستعرة"، ذاهبة بالأقوال والأفعال باتجاه تصعيد جديد، قد تكون له تداعيات خطيرة على كلا الطرفين.
روسيا لم تفشل وأوكرانيا لم تستسلم، ما يحدث هو تطور فعلي في مجريات الحرب فقط، بحيث تم نقلها إلى البحر الأسود ومنطقة شبه جزيرة القرم، بما يكشف تغييراً في الاستراتيجية القتالية، في اتجاه نقل المعارك إلى داخل الموانئ الروسية، والتصويب على أحد أهم عناصر الاقتصاد الروسي، في محاولة لجعلها أكثر تعقيداً، وهي الأكثر خطورة، فاستهداف الموانئ يعني إيقاف التصدير، وهو ما يعني بدوره مشاكل وأزمات وتداعيات خطيرة على الأمن الغذائي للعديد من الدول العالمية، التي عانت ولا تزال تعاني من نقص المواد الغذائية والتضخم، حيث دخل العالم في حالة من القلق إثر أزمة الحبوب التي جاءت بعد انسحاب روسيا من الاتفاق، واستهداف موانئ التصدير الرئيسية، واتّسعت دائرة القلق لتشمل الأرز وتخوفات نقص المعروض العالمي وارتفاع سعره، وسط حظر متوالٍ من الدول لتصديره، على رأسها الهند أكبر مصدّر في العالم، ومن بعدها الإمارات التي تعدّ مركزاً لتجارة الترانزيت في المنطقة العربية.
الأمر شبه المؤكد في كل ما يحدث، أنه لن يكون هناك منتصر ومهزوم في هذه الحرب، التي طال فيها نفس أوكرانيا واستمرت فيها روسيا رغم كل الصعوبات، لترسم بذلك صورة قاتمة حول مدى إمكانية اللجوء إلى حلول دبلوماسية، والتي لطالما كانت مستبعدة بالنظر للمواقف الصارمة والشروط التي يصر كل طرف عليها، ما يعني أن الاستمرار على الحل العسكري هو السائد، خاصة أن تصريحات المسؤولين بموسكو تشير إلى نية الكرملين عدم وقف الحرب في الوقت الراهن، إلى جانب إعلان كييف استمرار التحضير لهجوم الشتاء على مدار الأسابيع القادمة على قدم وساق، مع استمرار الدعم الأوروبي والأمريكي بالمال والسلاح.
ذاكرة العالم لا تغيب عنها الحروب، والأمر المفروغ منه أنه لا فائدة من حرب تحصد الأرواح يومياً، وتجوّع الملايين بحجج المفارقات والأيديولوجيات التي يحاول طرفا الصراع فرضها على أرض الواقع، دون الالتفات إلى ما يخسره العالم في خضم هذا الصراع الذي حتماً ستكون أضراره أكبر بكثير من فوائده، لتبقى نتائج هذا الصراع محتومة بما ستؤول إليه سياسات أطراف الحرب خلال الفترة القادمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.