كيف تفوقت المجتمعات العربية على الغربية في احترام منظومة الأسرة والحفاظ عليها؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/08/22 الساعة 09:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/08/22 الساعة 09:22 بتوقيت غرينتش
أسرة عربية/ shutterstock

من أكثر الأمور الاجتماعية التي تختلف فيها المجتمعات الشرقية عن الغربية، ما يتعلق بمفهوم العائلة والأسرة. فبالرغم من كل التقدم الذي تشهده بعض المجتمعات الغربية، خصوصاً الصناعية منها، والتي تمكنت بالفعل من تحقيق درجات عالية من الرفاهية والرخاء لمواطنيها، فإنها في المقابل، وحين يتعلق الأمر بقيم اجتماعية مثل العائلة والترابط الأسري، تشهد هذه المجتمعات  تراجعاً كبيراً في هذا الجانب. 

أما المجتمعات الشرقية، فرغم السلبيات الموجودة فيها، ورغم أن كثيراً منها لم يتمكن من مضاهاة المجتمعات الغربية في نواحٍ مثل التقدم الصناعي والاقتصادي وإعلاء سلطة القانون وحزم الدعم والرعاية الاجتماعية، فإن مفهوم الأسرة والترابط العائلي لا يزال حاضراً بقوة في وجدان  هذه المجتمعات وضمير. 

صحيح أن الأمر في هذا الجانب، فيما يتعلق بالمجتمعات الغربية، لا يشبه تماماً ذلك التصور أو القوالب النمطية التي قد يستوحيها البعض من خلال المسلسلات والكتب والأفلام السينمائية، إلا أن الصورة على أرض الواقع محزنة وغير مُبهجة بالفعل. فمفهوم الأسرة وقيمها وترابطها تراجع في هذه المجتمعات، وفقد مكانته على حساب إعلاء شأن الفردية بشكل قد يكون مبالغاً فيه في بعض الأحيان، وكذلك من خلال نمط الحياة الذي لا يضع اعتباراً كبيراً لهذه القيم ويريد العيش باستقلالية تامة في إطار فردي ضيق، يضع رغباته وأهواءه في المقام الأول، وليس لديه أي استعداد لتقديم تنازلات فيما يتعلق بهذا الجانب. هذا الإطار الفردي لا يوجد فيه مكان لدور الأسرة وشكلها التقليدي المألوف في المجتمعات الشرقية، وحين أتحدث عن الأسرة، فأنا أعنيها بشكلها المحدود والكبير أيضاً الذي يمكن أن يتعدى الأب والأم والأطفال، والذي يتسع في المجتمعات الشرقية ليشمل الأجداد والأحفاد والأعمام والأخوال وأبناءهم. 

الأسرة

في هذه المجتمعات الغربية المتقدمة للغاية، لا يوجد ذلك الثقل أو الدفء "الروحي" لمفهوم الأسرة؛ حيث يتعود الأبناء مثلاً على ترك البيت في سن مبكرة، فبمجرد بلوغ الابن أو الابنة سن الـ18 يُعد بقاؤه في منزل والديه أمراً غير اعتيادي؛ حيث الشائع أن يغادر بيت "الأسرة"، ويبدأ في البحث عن سكن مستقل حتى لو لم يكن مستعداً بعدُ لذلك. صحيح أن زرع الاعتماد على النفس في الأجيال الشابة شيء مهم للغاية، وأنهم يجب ومنذ سن مبكرة أن يتعودوا على الاعتماد على أنفسهم وعلى مواجهة الحياة ومصاعبها، وأن يكون لديهم شكل من أشكال الاستقلالية، لكن كل هذا يمكن تحقيقه بطرق أخرى وبقليل من التوازن وفي ظل وجود ودعم الأسرة أيضاً. 

ومع ذلك لا يزال هناك بعض الأسر الغربية التي لا تتبنى هذا المفهوم بشكل أعمى، فتجد مثلاً بعض الأبناء لا يزالون يقيمون مع أسرهم "المكونة من الأب والأم" رغم تجاوزهم سن البلوغ القانوني، بل تقوم بعض الأسر بتقديم الدعم المالي أيضاً لأبنائها، خصوصاً حين لا يتمكن هؤلاء من العثور على مصدر دخل، أو حين يضطر البعض إلى مواصلة الدراسة. بينما في مجتمعاتنا الشرقية فإن وجود "أجيال" من نفس الأسرة تتشارك العيش في نفس المكان أمر شائع ولا يستدعي لفت الانتباه! 

لكن الشيء المحزن كثيراً هو ما يتعلق بكبار السن، في المجتمعات الشرقية، فكبار السن يحتلون في الأسرة مكانة خاصة، حيث يُعدون بمثابة "البركة" في البيت، ورغم أن العناية بكبار السن أمر مرهق للغاية، فإن الشائع في هذه المجتمعات هو القيام بهذه المهمة ما دامت الأسرة موجودة، وليس من الشائع إرسال هؤلاء إلى دور العجزة والمسنين، إلا إذا كانوا مشردين أو ليس لديهم أهل (مع وجود استثناءات بالطبع). لكن الأمر الشائع في المجتمعات الغربية هو أن كبار السن وبمجرد أن يصبحوا غير قادرين على رعاية أنفسهم، فإن عليهم الذهاب إلى دور الرعاية، ولا يقوم أفراد الأسرة بتحمل أي مسؤولية تجاههم. وهذه الحقيقة مُسلّم بها من جانب الطرفين؛ حيث من المألوف أن يبدأ كثير من كبار السن، خصوصاً حين يصلون إلى سن التقاعد في البحث عن دار الرعاية المناسبة والتي ستؤويهم في النهاية حتى لو كان لديهم منزل كبير وعدد من الأبناء. فالكل منشغل ولا يوجد متسع أو مجال للعناية بكبار السن، خصوصاً ودور الرعاية موجودة ومنتشرة. صحيح أن دور الرعاية هذه تعتني بكبار السن وتقدم لهم أنواعاً مختلفة من الرعاية التمريضية والجسدية وبدرجة عالية من الجودة إلى أن يوافيهم الأجل، إلا أن الفكرة نفسها في أن يقضي المرء ما تبقى من سنوات عمره وحيداً بعيداً عن أسرته وأبنائه وأحفاده، محاطاً بالممرضين والممرضات الذين لا تربطه بهم أي صلة قرابة هي أمر محزن بالفعل.  

لقد تحدثت مسبقاً عن مدى الجودة في خدمات الرعاية التي يتم تقديمها في بلد مثل ألمانيا، خصوصاً لكبار السن، لكن جودة هذه الخدمات لا تُغني أبداً عن افتقاد المرء أحباءه ورغبته في وجودهم بقربه في آخر مرحلة من مراحل حياته. تلك المرحلة التي يشعر فيها المرء بالعجز التام وبالوحدة والعزلة. هناك قصص محزنة لمسنين كانوا يريدون العودة للعيش مع أبنائهم، لكن هؤلاء الأبناء هم أساساً من قاموا بتسليمهم إلى دور الرعاية، ولا يوجد لديهم الوقت أو الرغبة في العناية بهم؛ حيث الكل منشغل في حياته الخاصة، وليس هناك مجال للنقد أو الاستغراب، فهؤلاء المسنون فعلوا نفس الشيء مع آبائهم وهؤلاء الأبناء يعرفون أن النهاية ستكون هكذا، وتستمر الدائرة في الدوران. 

اللافت للانتباه في هذا الجانب هو أن الصورة لم تكن بهذا الشكل السلبي في المجتمعات الغربية المتقدمة في الماضي، فقبل ما يُعرف بالثورة الصناعية، وحتى بعدها إلى قبل قرن مضى كان لمفهوم وشكل الأسرة ثقل ووزن كبيرين في هذه المجتمعات وبشكل يشابه نظيره في المجتمعات الشرقية، فهل انعكس التطور الصناعي والإنتاجي الضخم في هذه الدول خلال العقود الماضية على حساب هذه القيم الاجتماعية وأثر فيها بشكل سلبي..؟ ربما.. لكن الشيء المؤكد هو أن مفهوم الأسرة وترابطها شهد ويشهد تراجعاً مستمراً في المجتمعات الغربية، وهذا الأمر ترك أثره وانعكاساته أيضاً لدى الجاليات والمجموعات المُهاجرة المقيمة في هذه المجتمعات، ولهذا حديث آخر إن شاء الله.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أنيس الباشا
كاتب يمني مقيم في ألمانيا
مستشار لشئوون الهجرة في ألمانيا وناشط تطوعي في المنظمات الألمانية المعنية بشئوون الهجرة
تحميل المزيد