هل الملحدون أكثر ذكاء من المؤمنين؟ قراءة في كتاب “الله والدماغ: عقلانية الاعتقاد”

عربي بوست
تم النشر: 2023/08/22 الساعة 13:10 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/08/22 الساعة 13:10 بتوقيت غرينتش
كيلي جيمس كلارك "الله والدماغ: عقلانية الاعتقاد" / تويتر

في عالم أصبحت فيه السلطة الأولى والأخيرة للعلم، أصبح من غير المجدي الاستمرار في نقاشات لا تستند إلى العلم، حيث إن متبني هذه النقاشات سرعان ما سيسهل نعتهم بشتى الأوصاف القبيحة، خاصة إن كان هؤلاء ينتمون لدين معين، أو طائفة أو عرق غير مرغوب فيه، لكن هل العلم دوماً محايد، أم أنه ينحاز لطرف على آخر، هل ينحاز العلم لفئة دون أخرى، أو عرق دون آخر؟ الإجابة البسيطة لا، لكن كيف يمكن استغلال العلم دوماً ضد الفئات الضعيفة، سواء كانت شعوباً، بلداناً، أقليات، ولم نجد الكثير من الحساسيات تجاه العلم، وإذا ما أردت أن آخذ مثالاً له علاقة بالموضوع، لم يتحرج أغلب المنتمين إلى دين معين، من استعمال العلم، بغية التأكد من سلوكات أو معتقدات معينة، لما في الغالب يلجأ هؤلاء إلى منطق القوة، أو التسفيه، بدل الجدل بالتي هي أحسن، والنقاش العلمي، ربما كثيرة هي الأسئلة التي تخص هذا الأمر، تظل بلا إجابة، ويصعب الإجابة عنها، لكن ماذا لو انصاع هؤلاء، لمنطق العلم، هل هم فعلاً سيخسرون النقاش؟ 

"الله والدماغ أو عقلانية الاعتقاد" هو كتاب ساحر بكل ما تحمل الكلمة من معنى، لمؤلفه الفيلسوف الأمريكي المشهور، كيلي جيمس كلارك، منذ بدأت في قراءة الكتاب لم أستطع تركه حتى أنهيته، إنه كتاب رائق وجميل، يغوص بالقارئ في أعماق بحار الأفكار، ينهل من كثير من التخصصات والعلوم، كما أن موضوعه شيق ومثير للنقاش في نفس الآن، إنه يدور حول عقلانية الاعتقاد، هل المؤمنون هم أقل عقلانية بين غيرهم، هل المعتقدات الدينية لا تسندها أدلة علمية كما يروج لذلك بعض الملحدين واللا أدريين، كل هذه الأسئلة تناقش في هذا الكتاب، بأسلوب هادئ ومقنع، الكتاب ينتمي لحقل معرفي قليل التداول وهو العلوم المعرفية للدين، رغم أن الكتاب يتناول عدة نظريات، وأفكار، سواء فيما له علاقة بعلم النفس، أو الفلسفة أو البيولوجية، فإن الكاتب حاول تبسيط كل ذلك قدر المستطاع، ولهذا فإن القارئ لن يمل وهو يتصفح هذا الكتاب، بل يشعر بالمتعة.

منذ إعلان نيتشه الشهير بقوله لقد مات الإله، وكان يعني بذلك اختفاء هذا المفهوم من المجال العام، فالأخلاق لم تعد تستند إلى مفهوم ديني كما كان في السابق، بل أصبحت ترتبط بالبيولوجيا أكثر منها بالميتافيزيقا، منذ ذلك الإعلان روج الكثيرون لاختفاء الدين، ومن ثم بدأت هذه الأفكار تتداول، سواء عن طريق السينما، الفن، الفلسفة، وغيرها من مجالات المعرفة الأخرى كثير، كما أن معظم النظريات التي أتت بعد ذلك كانت تبنى على أساس أن هذا موضوع انتهى أمره، غير أنه ومع تطور العلوم المعرفية، وخاصة بعد ما عرف بالثورة المعرفية في الستينيات، بدأت تختل تلك المواقف والنظريات التي كان يعتقد مروجوها أنها لن تدحض، ومنها الدين على سبيل المثال، حيث سيظهر أن إعلان نيتشه لم يكن صائباً، وأن الدين كان هناك، فقط هو لم يستطع أن يرى ذلك، ربما لأنه كان مصاباً بذهان منعه من رؤية ذلك، وهذه أحد الموضوعات التي ناقشها الكتاب، ما تأثير بعض الأمراض النفسية على الإيمان من عدمه.

بدءاً من تجارب الاقتراب من الموت، مروراً بالجين المسؤول عن الدين، ووصولاً إلى ما سمي بخوذة الله، يتتبع الكاتب، تطور البحوث العلمية فيما يتعلق بالاعتقاد، كما أنه يقف مع التفسير التطوري لنشوء المعتقد الديني، ويكشف قصور كل ذلك، سواء فيما يتعلق بنظرية التطور، أو بعض النظريات الفلسفية التي كانت بمثابة سند لتلك النظرية، ويركز دوماً على مسألة مهمة، وهي من الذي يسبق دوماً، الدليل أم الإيمان؟ بمعنى هل جميع المعتقدات التي نمتلكها، والمعلومات سواء فيما يتعلق بالكون، بالناس من حولنا، بالعالم الشاسع، بكمية هؤلاء الناس، هل كل هذا نملك عليه حججاً قاطعة، أم أننا في جزء كبير من كل ذلك نعتمد على التصديق فقط، من غير دليل، وهذا التصديق مبني على مسألة أساسية وهي الثقة.

يدخل الكاتب في نقاش مع مؤسس ما سمي بالعقل التنويري، وهو الفهم الذي ظهر للعقل مع عصر التنوير، الذي لا يقبل أي شيء دون دليل، وذلك استناداً إلى الكوجيتو الديكارتي المشهور، حيث إن الكاتب يعتقد أن ديكارت لحظة اعتقد أنه شكك في كل شيء لم يكن ذلك صحيحاً، حيث إنه بقي له بعض الأمور صدّق بها ومنها استطاع بناء تدليل على وجوده، ومن ثم وجود العالم من حوله، وبالتالي صحة الحقائق التي يراها، كل هذا يلخصه الكاتب في أمر وحيد، وهو أن هؤلاء الذين يعتقدون في أمر ما، حتى وإن كان اعتقادهم من غير دليل، فهم ليسوا أقل عقلانية من غيرهم، إذ الآخرون الذين يظنون أنهم لا يعتقدون في أمر ما، ما لم يوجد دليل عليه، عند التمحيص نجد أنهم يسلمون بالكثير من الأمور، فقط لأنهم يثقون بعالم معين، أو منظمة، أو هيئة، أو غير ذلك.

هذه القضية سبق أن ناقشها الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، حيث يؤكد على أن الإيمان يسبق العقل، ويقصد به الدليل المنطقي، إذ حسب رأيه فإننا إن لم نصدق أو نومن بوجود عقل، ووجود دليل أيضاً، لما أمكنني استخدامهما، وبالتالي فإن المروجين لهذه الأفكار، أي لا اعتقاد من غير دليل، هم يسقطون في مغالطة منطقية، وأن حالهم لا يختلف كثيراً عن غيرهم، غير أنه ربما لأنهم متبعين لموجة التشكيك والتمرد على كل شيء، يبدو أن رأيهم مسموع أكثر من غيرهم، قد يبدو هذا النقاش ربما جدلياً أكثر منه نقاش مثمر، لكن هذه بعض النقاط فقط، التي تناولها الكاتب، وهي على العموم بعض الشكوك التي كانت متداولة بين الفلاسفة على امتداد السنوات الأخيرة، غير أن الذي أطربني في الكتاب هو استناده إلى العلوم المعرفية، ونظرية العقل، وقضية الحس الإلهي وملكة الاعتقاد بالله… وغيرها.

من القضايا المهمة التي تطرّق لها الكاتب، مسألة الذكاء والإلحاد، حيث إن بعض التقارير كانت قد بدأت تتداول على وجود مستوى من الذكاء أكثر لدى الملحدين منه عند المؤمنين، غير أن هذه النتائج مع التسليم بصدقها، فإن الغلط قد يكون في تفسيرها وتوظيفها، حيث إنه قد يكون هناك عدة عوامل أخرى تفسر الإلحاد، وليس درجة الذكاء من عدمه مثلاً، وتؤكد الدراسات أيضاً، أن هناك دوراً مثلاً للتوحد، حيث وجد أن التوحديين يكون لهم ضعف في ما يسمى بنظرية العقل، وبالتالي فهم يكونون أقل أدراكاً وارتباطاً بشيء متسامٍ، أو متعالٍ عن الحس، وهنا لا علاقة مثلاً لمعدل الذكاء بالإلحاد أو الإيمان، بل قد تكون عوامل أخرى هي المسؤولة، كما أنه قد تكون بعض العوامل الثقافية، أو ظروف التنشئة من غيرها.

إذا ما أمكنني تلخيص نقطة هذا الكتاب، فإنه يفكك الأطروحة الأساسية التي يستند إليها بعض الملحدين، أو اللاأدريين، في أن العلم يدعم وجهة نظرهم، بل الدراسات الحديثة، وخاصة في العلوم المعرفية، والتي تمثل العلوم العصبية جزءاً منها، تكذب هذا الادعاء الذي ظل يزعمونه لفترة طويلة، وخاصة من لهم شهرة وسطوة علمية، والذين للأسف تتداول كتبهم وتروج أفكارهم أكثر من غيرهم، في المقابل أيضاً، من يمثلون وجهة نظر الدين، فإنه لا يوجد سبب مبرر لعدم انفتاحهم على المجال العلمي، وتشبثهم ببعض العلوم التقليدية، وكأنهم جيش محاصر داخل قلعة قديمة، الانفتاح على العلوم المعاصرة، أصبح ضرورة اليوم، وكما يؤكد صاحب الكتاب وهناك كتب أخرى كثيرة، في هذا المجال، فإن العلم يعلمنا التواضع، ويجعلنا لا نجازف ببعض الأحكام، معتقدين أننا نمتلك الحقيقة، العلم قد يكون في بعض الأحيان، يخدم أغراضنا، حتى وإن كانت دنيئة ولا يعني أنه يمتلك الحقيقة أو يدافع عنها، وهنا ربما يأتي دور الإيمان.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
سفيان الغانمي
كاتب رأي مغربي
تحميل المزيد