على عتبة التخطِّي

عربي بوست
تم النشر: 2023/08/22 الساعة 13:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/08/22 الساعة 13:33 بتوقيت غرينتش

كان يسير بيننا هائماً كمن ضُرب على رأسه ولم يستفق بعد، كانت عيناه تدور يميناً ويساراً كأنه يبحث عن شيء قد ضاع منه، وعندما سألناه: "عمَ تبحث؟"، أجاب متوجساً: "البيت.. أو ما كان لي بيتاً"، وكان كلما حاول أن يتظاهر بأن خطواته متزنة، ترنحت أقدامه أكثر، حتى كدت أخاف عليه أن يقع، فسرت وراءه دون أن يراني، كي لا يهرب مني، فرأيته يركض بتوازن مختل هنا وهناك، ومن ورائه أركض أنا الأخرى لألحقه، حتى لمحته يقف مدهوشاً أمام كومة رماد رائحة احتراقها لا تزال في الأرجاء مسيطرة. 

رأيت فوق جفونه سحابات، كأن سماء جفونه ستوشك أن تمطر، ومن ثم شاهدته وهو يرتمي بجانب أحد أعمدة بيته المتبقية، أسند رأسه لأقرب عمود فسقط، فركض للعمود الثاني بإصرار وحاوطه بذراعيه، وبلهفة ألصق رأسه برأس العمود، ولكن العمود أبى أن يكون له سنداً فسقط هو الآخر، وللمرة الثالثة رأيته، ولكن هذه المرة، شاهدته يسير زاحفاً للعمود الأخير المتبقي له من ذاك البيت، وما أن مال عليه إلا سقط، وعندما سقط آخر سند لصاحبنا، سقطت معه أول دمعة منذرة ببدء فصل حزن طويل، ولأن صاحبنا كان متعباً تعباً شديداً، رفع كتفه الأيمن لأعلى، ومن ثم مال برأسه على نصفه الأيمن، وشد بذراعيه على يساره ويمينه حتى ارتاح بعض الشيء، ومن ثم أغمض عينيه حابساً دموعه، ولكنه لم يصمد إلا بضع دقائق، فكل ما كان يريده أن يسند رأسه على سند متين دون أن يسقط. 

وهكذا مرت أول ليلة، أو لم تمر؛ فكلنا كنا نظنها مرت، عداه؛ فحتى يومنا هذا لا يزال يذكر كيف كان ليله طويلاً، وإلى أي حد ظن أن شمس الغد لن تشرق.

في صباح اليوم الثاني استيقظ صاحب الدار المحترقة مرتعباً؛ فمن أين أتى كل هذا البرد؟ ولمَ صدى صوته عالٍ لهذا الحد؟ ومن ثم تذكر أنه الآن أصبح وحده، وحده تماماً، وحده إلى حد تتعجب منه الوحدة، وما أن نظر حوله حتى وجد سياجاً يُشيَّد شيئاً فشيئاً حول داره المتهدمة، حاول أن يهمّ بالقيام، ليمنع ذلك السياج من أن يُشيّد، ولكن أقدامه لم تسعفه لكي يصل، ولم تعنه على القيام، وكأنها مكبلة بشيء ثقيل يشدها لأسفل، فظل في مكانه ولم يحاول القيام مرة أخرى، انكمش على نفسه، واستسلم لكل شيء حوله؛ رجل وحيد وسط دار متهدمة، ينزف من حول عنقه دماً، أقدامه مكبلة، ويضربه البرد يميناً ويساراً، متألماً وسط هدد، كان يوماً من الأيام له بيتاً.

وفي ليلته الثالثة بدأ يُعييه التعب؛ فقد اشتد عليه البرد، وآلمت عظامه صلابة الأرض، فأخذ ينبش في بقايا داره علّه يجد أي شيء ليّن ليتكأ عليه، ظل يبحث هنا وهناك دون جدوى، فنظر لأعلى وكأنه يستجدي من السماء أي جواب، وظل يجوب في بقايا الدار، علّه يجد شيئاً يؤنسه أو يستأنس به وسط وحدته، وفي إحدى الزوايا وجد بقايا مرآة متكسرة، معلّقة فوقها صورة قديمة له، في تلك الصورة كانت ابتسامته ملء وجهه، كان يقف بثبات وسط جمع من الغرباء دون الاتكاء على أي شيء، ظلت ألوان صورته القديمة تلمع، رغم أن كل شيء في أرضه كان يتشح بالبياض والسواد، ومن ثم نظر لنفسه في الجزء الصغير المتبقي من المرآة تحت صورته القديمة، كي يرى لأي حد اختلفت ملامحه، ولكنه لم ير أي شيء على الإطلاق، فاقترب من المرآة علّه يستطيع أن يرى أي شيء عن قرب، وكلما اقترب، خانته عيناه واهتزت رؤيته أكثر، حتى انعدمت رؤيته كلياً، وشيئاً فشيئاً بدأ يُسلم للأمر الواقع، فقد أيقن أنه لن يجد نفسه بعد الآن في فتات هذه المرآة المتكسرة، ومن ثم بدأ يركض مبتعداً عن تلك المرآة، وما أن ابتعد، حتى بدأت معالم صورته تتضح، وكلما ازدادت المسافة بينه وبين المرآة، بانت معالمه في المرآة أكثر، وبينما كان يركض ارتطم بشيء صلب، فنظر إلى يساره، ومن ثم لمح باباً مكتوباً عليه "إلى الخارج"، وحينها أدرك أنه لا يجب أن يمكث وسط بقايا هذه الدار وقتاً أطول، عندها استوعب أن عليه أن يلملم بقاياه ويهرب من تلك الأرض، وعندها فقط أدرك أن الخروج من حدود الماضي مقدر له، رأيته يقف ناظراً لكل شيء من حوله نظرة مودع، ومن ثم أدار ظهره لكل ما مر به داخل تلك الأرض المتهدمة، وارتحل، ولم أره ينظر وراء ظهره مرة أخرى.

حينها فقط شعرت بسعادة اقشعر لها بدني، وبدأت سحابات جفوني هي الأخرى تمطر، ولكن هذه المرة كان مطراً سعيداً، تمنيت لو بإمكاني أن أحتضنه وأسير معه إلى طريقه الجديدة، كنت أود أن أقول له إن الباب كان موجوداً منذ ليلته الأولى، وإنه لم يكن هناك أي سياج على الإطلاق؛ فالبرد والصدى والسياج كلها أشياء لم تكن إلا من نسج خياله، لم تكن مشكلته في البحث عن علاج لحالته، بل كانت تكمن مشكلته في البحث في المكان الخطأ؛ كان يبحث عن كل شيء في ماضٍ ارتحل عنه وانتهى، كان يبحث في كل مكان حوله، ما عدا مكان واحد غفل عنه؛ نفسه، وإذا سألتموني لمَ لم أختصرعليه المسافة منذ الليلة الأولى، ولمَ لم أركض لإخباره بكل شيء لم يكن يعرفه، لأخبرتكم أنه لم يكن ليصدقني، فليس في مقدور أحد منا أن يقرر شيئاً نيابة عن الآخر؛ فليس في يدي أن أجعل شخصاً متألماً يصدّق أنه يوماً ما سيقرر أن يخرج من سجنه ويتعافى، وليس في يدي أن أجعله يصدّق أن هناك باباً للخروج. 

هذه الحكاية من نسج خيالي، ولكنها تمُتُّ للواقع بكل صلة؛ في الحقيقة كان الواقع أكثر إيلاماً، وكذلك التفاصيل كانت أشد وطأة، وليالي هذا الحبس الانفرادي لم تكن 3 ليالٍ وحسب، فالمدة تختلف من شخص لآخر؛ فهناك من قرروا الخروج بعد 4 فصول متتابعة، وآخرون لم يقدروا على الخروج قبل 8 فصول متتالية، وإذا سألتني عمن أتحدث، فكل ما سأقوله لكَ: انظر في المرآة عن كثب، وإذا وجدت مَن أتحدث عنه، فنحن على وفاق، وبالتالي لا تحتاج مني رداً، وفي النهاية كل ما يهم، أن تجد بابك إلى الخارج، وتعزم على الخروج، دون أية عودة للماضي.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
ساندي ياسر
كاتبة مصرية
اسمي ساندي ياسر عبدالمنعم، وعمري 22 عاماً، أنهيت دراستي بكلية الألسن في جامعة عين شمس بالقاهرة العام الماضي، حيث درست اللغتين الألمانية والإنجليزية، شاركت من قبل بمقالات مختلفة في ثلاثة كتب ورقية في معرض الكتاب بالقاهرة؛ اثنان لدار إنسان، والآخر لدار كتبنا، وشاركت بعدة مقالات في مدونات HuffPost مسبقاً، وبمقالات أخرى في جريدة «اليوم الجديد»، وفي أثناء دراستي شاركت في عدة مسابقات أدبية في قسم اللغة العربية بالكلية، وحصلت في المرة الأولى على المركز الأول في المقال، والأخرى في القصة القصيرة. وحالياً أعمل في قسم الموارد البشرية بإحدى شركات التوظيف العالمية.
تحميل المزيد