لوقف النزيف في السودان، من الضروري أن تعود القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع إلى طاولة المفاوضات. ولكي نفهم مَن الأنسب لتولي دور الوسيط، فإنَّنا بحاجة إلى فهم الطريقة التي تعمل بها الوساطة في النزاع.
لتقريب الصورة بشكل بسيط، تخيل أنك تسير في يومٍ ما في الشارع أمام منزلك، فترى أخوين يتشاجران في منتصف الشارع، يتبادلان اللكمات والسباب ويذرفان الدموع وينزفان دماً ويتصبَّبان عرقاً. فتجد نفسك محاولاً أن تُوقِفَهما عن التشاجر، كرغبة بشرية طبيعية طواقة لسلام لإنهاء الفوضى والاضطراب الذي يتسبَّب بها هذا الشجار في محيطك، فأنت تعرف هذين الأخوين، وتشعر لسببٍ أو لآخر بمسؤولية اتجاهما لمنع أي إصابات خطيرة قد تؤذيهما.. فتبدأ بسؤال نفسك عما يجب أن تفعل؟
بعد هذا التخيل البسيط يمكن أن ننتقل، إلى سؤال ما الذي يجب علينا فعله إذا كنا نحاول بدلاً من إنهاء النزاع بين أخوين إنهاء النزاع في السودان، النزاع الذي أسفر عن قتل الآلاف وتشريد الملايين؟ ما الذي يتعين تحقيقه من أجل إرساء سلام مستدام في هذا البلد الطيب؟ مَن سيكون المسؤول عن تولي هذه المهمة؟ هل المملكة العربية السعودية هي الخيار الوحيد؟ حسناً، ربما! إذ من الممكن أن نجادل بأنَّ السعودية في وضعٍ أفضل من الآخرين يسمحلها للعب دور الوسيط في السلام بشكل مناسب.
بالرجوع لمثال الأخوين، لإنهاء الاقتتال بينهما، يستوجب وجود الشرط الأول، ألا وهو استعدادك المطلق للتوسط في وقف القتال. فيتعين أن تكون ملتزماً ومقتنعاً شخصياً بالتوصل إلى حل سلمي. فأنت كشخص، يمكن أن يكون دافعك لإنهاء القتال بسيطاً مثل الحب والاحترام لأسرة الأخوين أو للأخوين نفسيهما. لكنَّ عندما ننتقل للأحداث السياسية الدولية فللأسف نادراً ما يكون الأمر بسيطاً، وللأسف نادراً ما تكون دوافع هؤلاء الفاعلين خيرية أو إنسانية. لذا، فإنَّ فهم أن المصالح السياسية والاقتصادية للوسطاء ضرورية للعملية برمتها.
يجادل المحللون بأنَّ واحداً من أكثر الأطراف "ذات المصلحة" في الاستقرار بالسودان هي السعودية، نظراً لحقيقة أنَّ أي عدم استقرار في السودان قد ينتهي بأزمة لاجئين، وتصاعد للجماعات المسلحة، مما قد يؤدي إلى أزمة أمنية حقيقية في البحر الأحمر، ذي الأهمية الكبيرة للسعودية، ليس فقط لأنَّه ممر تجاري بالغ الأهمية، بل أيضاً لأنَّها تستثمر بشكل كبير في بناء وتجديد أماكن سفر للسياح في مدنها الساحلية.
وربما يصح القول إذ قلنا إن الرياض هي فقط من يمكن أن تكلل جهودها بالنجاح في عملية الوساطة، نظراً لأن البلدان المجاورة لسودان مثل مصر وإثيوبيا وتشاد على حافة الخطر، لأنَّها تتأثَّر بتداعيات الصراع بشكل مباشر، مما قد يثقل كاهلها السياسي والاقتصادي أثناء أي عملية وساطة محتملة.
فعلى سبيل المثال، في 16 أبريل/نيسان الماضي، بعد يوم واحد من اندلاع الصراع، عبر 320 جندياً من القوات المسلحة السودانية الحدود التشادية أثناء فرارهم من جنود قوات الدعم السريع. وتشير هذه الحادثة إلى أنَّه بالإضافة إلى المشكلات الإنسانية والاجتماعية الناجمة عن تدفق اللاجئين السودانيين الفارين من الصراع، فإنَّه كلما طال أمد القتال، زادت احتمالية جرِّ البلدان الإقليمية إلى الصراع العسكري الذي ترغب في تجنُّبه؛ لأنَّ معظم هذه البلدان تحاول التعامل مع مشكلاتها الأمنية الخاصة.
أما إذا ذكرنا الأطراف الأخرى ذات المصلحة كالولايات المتحدة والصين وتركيا. وعلى الرغم من أنَّ كلاً منها له مصالح معينة في التوسط لتحقيق السلام في السودان، حيث عدم الاستقرار هناك يضر بعلاقاتها التجارية الحالية والمستقبلية مع السودان والمنطقة، لا يمكن إنكار رغبة هذه الدول في زيادة نفوذها في المنطقة وهو ما قد يعرقل عملية الوساطة.
بينما المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي ومنظمة "إيغاد" (الهيئة الحكومية للتنمية) رغم رغبتها الصادقة في إنهاء الصراع هناك، بسبب الخوف من التأثيرات غير المباشرة التي قد يُخلِّفها هذا الصراع على المنطقة إلا أنها لا تملك أدوات الضغط اللازمة والفاعلة.
بالرجوع لمثال الأخوين، فوجود الاستعداد للوساطة ليس إلا الخطوة الأولى، أما عن الخطوة التالية لإنهاء قتال الأخوين تكمن في أن تجعل الأخوين يتوقفان عن تسديد اللكمات لبعضهما وأن يلتقطا أنفاسهما لدقيقة، حتى تتمكَّن من فهم المشكلة. والأهم من ذلك، يجب أن تمنع تعرُّض المارة للأذى. ويتطلَّب ذلك قدرة، أو بعبارة أكثر صراحة، "قوة". وهي لا تأتي إلا بكونك شخصاً يحترمه كلا الأخوين بحيث يكون تحذيرك اللفظي بحد ذاته كافياً للتوقف، أو أن لديك القوة الكافية لتضبطهما جسدياً.
في العلاقات الدولية، تُترجَم تلك الأفعال أو القوة إلى تهديدات بعقوبات أو تدخلات عسكرية لتحقيق وقف إطلاق النار. لكن في حالة السودان سيكون وضع جنود على الأرض أمراً صعباً للغاية من الناحية اللوجستية؛ لأنَّه لا يوجد خط فاصل بين المتنازعين مثل الحدود.
علاوة على ذلك، قد تضر أي فكرة بخصوص نشر قوات أجنبية العملية أكثر، مثلما أثبت مقترح الإيغاد في يوليو/تموز الماضي بنشر قوات على الأرض. إذ ارتد المقترح بنتائج عكسية بعدما استاء مسؤولو الجيش السوداني من هذا المقترح، والذي أضعف مصداقية المحاولات المستقبلية للوساطة من جانب الإيغاد.
أما عن استخدام نهج التهديد بفرض عقوبات، فيجب مراعاة نقطة بالغة الأهمية ألأ وهي أنَّه من أجل نجاح تهديد دولة أو منظمة دولية ما بفرض عقوبات، فمن الضروري أن يكون لدى الطرف الفاعل الذي يُطلِق التهديد علاقات اقتصادية وسياسية كبيرة مع كلا طرفي الصراع.
وفي السياق السوداني، لا يملك تلك القدرة غير الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية. وقد أثبت ذلك بالفعل عندما استخدمت الولايات المتحدة قدرتها كقوة مالية عالمية لتنفيذ التهديد بالعقوبات، جنباً إلى جنب مع النفوذ السياسي السعودي على قادة الصراع هناك، فأثمر التحالف الأمريكي – السعودي إطلاق "إعلان جدة" التي جرت أولى جولات مباحثاتها في 6 مايو/أيار الماضي.
على الرغم من فشل هذه المباحثات في التوصل إلى خفض للتصعيد ووقف كامل لإطلاق النار في نهاية المطاف، فإنَّها أنتجت إعلان مبادئ والعديد من اتفاقات وقف إطلاق النار. ورغم اعتقادي التام بأنَّ أي سلام على الورق لا يصحبه تغيير على الأرض يعني فشلاً تاماً، إلا أنه لا يمكن إنكار حقيقة أن مباحثات جدة كانت المحاولة الأكثر فاعلية حتى وإن كانت على الورق، فقد جاءات في وقت لم تنجح أي محاولة وساطة أخرى حتى على التوصل إلى اتفاقات على الورق، مما يعزِّز اليوم فكرة أنَّ السعودية هي أفضل خيار للتوسُّط في المباحثات المستقبلية، بالإضافة لرغبة الجانبين السعودي والأمريكي عن استعدادهما لاستئناف المباحثات بمجرد اتخاذ الطرفين الخطوات الضرورية لبناء الثقة.
وبعد التأكيد على رغبة حل النزاع كخطوة أولى وإثبات القوة كخطوة ثانية في عملية إنجاح الوساطة، يأتي دورالخطوة الثالثة، والتي ستكون التعمُّق في فهم الأسباب التي جعلت الأخوين يتشاجران في المقام الأول. ولفعل ذلك، يحتاج الوسيط إلى أن ينظر إليه الطرفان المتصارعان باعتباره طرفاً محايداً، وقد نجحت السعودية في كسب ثقة الطرفين عندما جمعتهما في مدينة جدة لأول مرة. وهذه النقطة يمكن أن توضح لماذا نستبعد مصر من عملية الوساطة، فقد أشارت عدة تقارير إلى أنَّ مصر تدعم القوات المسلحة السودانية، بينما الإمارات فعلت الأمر نفسه مع قوات الدعم السريع. وفي ما يتعلَّق بالدول والمنظمات الأخرى، فكما ذكرنا لا يبدو أنَّ أحداً آخر يملك النفوذ أو الشرعية باعتباره طرفاً محايداً في نظر الطرفين المتصارعين.
رغم ذلك، يظل الوضع في السودان شديد التعقيد، إذ يظل كل شيء في يد القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في إفشال عملية الوساطة أو إنجاحها، حيث إذ ظل الطرفان مُصرِّين على اللجوء إلى العنف لحل المشكلة، فلن يكون هناك أي نهاية مرضية لهذا الصراع، لذلك أعتقد أن الحل الوحيد لن يتمثل أمامنا إلا عن طريق الجلوس على طاولة المفاوضات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.