كيف يعالج القرآن مشاعرنا؟ (2)

عربي بوست
تم النشر: 2023/08/20 الساعة 08:46 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/08/20 الساعة 09:36 بتوقيت غرينتش
يحثنا القرآن على أن نخرج من تلك الدائرة المادية الضيقة - shutterstock

في عصرنا الحديث، حيث يجري كل شيء بسرعة رهيبة تصنع ضغوطاً على الإنسان، نشعر فجأة بضيق لا نعلم له سبباً، أو بعدم جدوى الحياة، أو بانقباض في الصدر، يزداد هذا الأمر وطأة حين نفكر في المصير، وفي ابتلاءات الحياة بطريقة تعزلنا عن تمثُّل حكمة الله في خلقه "ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار"،  خاصة حين ننعزل في المدن العملاقة ومبانيها الشاهقة وغرفها المحكمة التي تعزلنا عن التفكر في خلق السموات والأرض والتحرر في براح الملكوت من قيود الفكر والمادة،  وحين تفصلنا الشاشات عن أسرار الآيات في الآفاق والنفس، فكيف نمضي في سبيل تقينا هذا الانقباض وهذه الوحشة واللا جدوى؟

والصبح إذا تنفس

يصور القرآن حركة كل شيء، يتنفس الصبح ويسفر، يدبر الليل ويعسعس ويسجى ويغشى، تغرب الشمس في عين حمئة، ويريد الجدار أن ينقض، تهتز الأرض وتربو، تجري السفينة وتستوي، لا أرى هذا في عصرنا سوى جلاء للخسارة، الخسارة الفادحة التي ندفعها لأننا عزلنا أنفسنا بين أربعة جدران من الإسمنت وورق الحائط والشاشات، هل ما زلنا نهتم للصبح والليل والمطر والندى؟ للشمس والقمر والنجوم مسيرات، للفلك والبحر الهادر، كيف سندلف إلى فضاء المعية الإلهية ونحن لا نملك تلك العلامات التي بها نهتدي، ونحن قد عزلنا أنفسنا عنها، عن التفاعل معها والوجود بداخلها لتتدفق بداخلنا كالأريج؟

إن انشراح الصدر يأتي من تلك الرسالة القرآنية التي تأخذنا من أيدينا وتدخل بنا إلى فضاء التفكر والتدبر واستحضار عظمة الله وجلاله، ولطفه وإحاطته، وقدرته وحكمته، وحين نخرج من ضيق الحيز نستطيع أن نتمثل حكمة الله، والمعنى من وجودنا وما نتعرض له من ابتلاءات.

This image has an empty alt attribute; its file name is shutterstock_594868862-3-1024x684.jpg
انشراح الصدر يأتي من تلك الرسالة القرآنية – shutterstock

ومن ثمرات التفكر أنه يدفعنا دفعاً صادقاً إلى ذكر الله، ذكر منطلق من شعور حقيقي بعظمته وجلاله وقيوميته، وذكر الله هو السبيل لقلوب مطمئنة، (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

يحثك القرآن على أن تخرج من تلك الدائرة المادية الضيقة، ومن تمثُّل الأسباب الدنيوية الزائلة على الدوام، إلى رحابة الآفاق؛ كي ترى وتشهد آيات الله، ويزول عنك ما يعتريك من ضيق.

ما فات وما هو آت

هل كل ما تراه في هذا العالم التقني حقيقي؟ هل الأصدقاء الذين ترى صورهم ومشاهد من حياتهم سعداء حقاً ولا تواجههم أية مشاكل؟! في كل لحظة تفتح فيها منصات التواصل الاجتماعي تتدفق إليك آلاف الصور والحالات التي تدفعك دفعاً نحو الشعور بالفوات، ماذا تفعل بنا تلك المنصات غير أنها تدفعنا إلى مقارنة حياتنا بحيوات الآخرين، التي تُعرض بشكل مبتور لا يظهرها على حقيقتها، فهي زخرف كزخرف الحياة الدنيا، وقد غذى كل ذلك، الخوف من الفوات في عصرنا، فأصبح ما يحكمنا أننا نخاف أن يفوتنا كذا وكذا، وهذا يزيد من الضغوط علينا ويدفعنا إلى التكالب على الدنيا أكثر دون لحظة رضا منشودة، فمتى سترضى وأنت في تلك الحال اللاهثة؟!

يعالج القرآن خوف الإنسان من الزمن، خوفه من الفوات ومن تهدم جدار السكون الذي يحاول -ما زال حياً- أن يبنيه، إلا أنه لا يكتمل إلا في الآي الحكيم، فالإنسان أمام هذا الوجود لا يعدو كونه مغترباً زمنياً، يندم على ما تقادم ويخشى ما هو آتٍ حتى تفنى لحظته تحت وطأة الخوف، فيأتي القرآن ليزرع سكينته بأن يضع له منهجاً يقيه شر قول {رَبِّ ارْجِعُونِ}، فيكفّ عن النظر وراءه: {لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ}، فينتشل بنوره ضياع الإنسان من ماضيه ليعيد وضعه على الطريق من جديد ويرسم له خارطة الزمن الجديدة من بعد تيه وضياع، وأما الغد الذي يخشاه فقد كفل له رزقه فيه، وربما أجلى ما تتبين فيه هذه الفكرة هو قول الله: {وَأَصبَحَ الَّذينَ تَمَنَّوا مَكانَهُ بِالأَمسِ يَقولونَ وَيكَأَنَّ اللَّهَ يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ وَيَقدِرُ لَولا أَن مَنَّ اللَّهُ عَلَينا لَخَسَفَ بِنا وَيكَأَنَّهُ لا يُفلِحُ الكافِرونَ}[القصص: 82].

فالذين تمنوا مكانه بالأمس والذين يرتحلون بفكرهم إلى رزق الغد يعيدهم الله إلى اليوم بالإيمان الصادق وبرهان السكينة. {ولا تفرحوا بما آتاكم}.

ينبهنا القرآن إلى خطورة الدنيا وزخرفها، والفرح بها، الفرح الملهي عن سبب خلقنا ورسالتنا في الحياة، الذي يأخذنا بعيداً عن دائرة التعبد إلى دائرة التنافس والتكالب، ويتركنا هناك مشتتين ضائعين لا نشبع من مال ولا سلطة ولا متع، ننشد طمأنينة لن تكون إلا في رحاب المحراب، ونطلب سكينة لن نجدها إلا في ذكر الله.

 ضعُف الطالب والمطلوب

هل سيبدو من الغريب لو قلت إننا نحتاج إلى الشعور بالضعف والعجز كما حاجتنا إلى الشعور بالقوة والقدرة؟!

فلتتصور نفسك قادراً على كل شيء، قوي لا يغلبه أحد، أليس هذا شعور المتجبرين؟!

لقد جئنا إلى تلك الحياة ونحن نحمل ضعفاً وعجزاً ونقصاً، يضرب الله المثل للذين كفروا فيطالبهم بخلق ذبابة، أو حتى استنقاذ ما يسلبه الذباب منهم، إن استشعارنا لضعفنا وعجزنا بصيرة تدفعنا إلى الشعور بقدرة الله ومعيته، فالتخلية قد جعلها علماء الرقائق قبل التحلية، نحتاج أن نخلي قلوبنا وعقولنا من شعور القوة والقدرة المزيف كي تمتلئ بالإيمان والاستعانة الحقة بالله، ولا يعني ذلك أن يدفعنا استشعار ضعفنا أمام قدرة إلى الله إلى العجز واليأس، فالمسلم لا يعجز إلا أمام خالقه ومولاه.

لا تكن مثل فرعون حين قال: {أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ ٱلْأَنْهَٰرُ تَجْرِى مِن تَحْتِىٓ}، ولا مثل قارون حين قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}، ولا  مثل من قال: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً}.

وإنما افعل كما قال له صاحبه: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}.

يعالج القرآن خوف الإنسان من الزمن
shutterstock – يعالج القرآن خوف الإنسان من الزمن

فجريمة هؤلاء جميعاً أنهم لم يستشعروا حقيقة ضعفهم وعجزهم فغرتهم الدنيا وغرّهم زخرفها، وظنوا في أنفسهم القوة والقدرة والاستحقاق، فأوردهم ذلك موارد الهلاك بعدما تجبروا وتكبروا.

الافتقار إلى الله، واستشعار حقيقة النفس الضعيفة العاجزة هما لب العبودية لله، ذلك المقام الذي ينشده كل مؤمن، فقد قال ابن القيم رحمه الله: "إنَّ مقام العبودية هو بتكميل مقام الذل والانقياد، وأكمل الخلق عبودية أكملهم ذلاً لله وانقياداً وطاعة، ذليل لمولاه الحق بكل وجه من وجوه الذل، فهو ذليل لقهره، ذليل لربوبيته فيه وتصرفه، وذليل لإحسانه إليه وإنعامه عليه".

وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "إنَّ العبد إذا تواضع لله -عز وجل- رفع حكمته، وقال: انتعش رفعك الله، فهو في نفسه حقير، وفي أعين الناس كبير، فإذا تكبر وعدا طوره وهصه إلى الأرض، وقال: اخسأ أخساك الله، فهو في نفسه كبير، وفي أعين الناس حقير، حتى إنَّه أحقر في أعينهم من الخنزير".

فكن مطلعاً على حقيقة نفسك وضعفك وقوتك، واستشعر افتقارك لله تفز بمقام عبوديته وصدق التوجه إليه.

 واستعينوا بالصبر والصلاة

أنت الآن في منطقة ما من عمرك، في العشرين  أو الستين أو بينهما، لا تعلم مقدار ما تغير فيك، ومقدار بعدك السابق واللاحق عن حقيقتك، تعلمت، فرحت ويئست، سقطت وقمت، أحببت وفقدت، تمنيت وخذلوك، تشككت من بعد يقين، وتلون وجهك ألف لون، طبقات من الآثار المبنية على وجهك وفي قلبك قادرة على تشويهك وتشكيلك من جديد وإبعادك عن جوهرك، الشيء الوحيد الذي سيبقيك على حقيقتك مع موجات الحياة العاتية وعواصف الزمن المغيرة شيء له صفة البحر، فالبحر خلاف الأرض لا يحمل آثار الحياة البشرية، لا شيء يبرح فيه ولا تمر حادثة مهما كان عظمها سوى هاربة، كم حمل من زوارق وأساطيل وكم اجتازه أباطرة وجبارون ثم انقضى بهم الأمر إلى أعماقه أو ضفته الأخرى دون أن يؤثر ذاك على صفائه ورقَّة موجه ونقائه المفقود في العناصر الأرضية، ماؤه البكر أرق من الأرض القاسية التي بحاجة دائمة لآلة تشقها بكل قوة، تجتازه في نعومة محيرة وهو يهدر بكل قوة، في الصلاة كما البحر ستزول كل الآثار البشرية من جوهرك، ستنمحي حماقات البشر كأنها لم تكن يوماً، وتزول شرورهم كأنها عاصفة تركت البحر أكثر نقاء، ويغوص خذلانهم مهملاً في قاع النسيان.

يقول سيد قطب في كتابه (في ظلال القرآن): "إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بالقوة الكبرى، يستمد منها العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة، حينما تواجهه قوى الشر الباطنة والظاهرة. حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات وإغراء المطامع، وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة. حينما يطول به الطريق وتبعد به الشقة في عمره المحدود، ثم ينظر فإذا هو لم يبلغ شيئاً وقد أوشك المغيب، ولم ينل شيئاً وشمس العمر تميل إلى الغروب. حينما يجد الشر نافشاً والخير ضاوياً، ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق. هنا تبدو قيمة الصلاة. إنها الصلة المباشرة بين الإنسان الفاني والقوة الباقية. إنها الموعد المختار لالتقاء القطرة المنعزلة بالنبع الذي لا يغيض. إنها مفتاح الكنز الذي يغني ويقني ويفيض. إنها الانطلاقة من حدود الواقع الأرضي الصغير إلى مجال الواقع الكوني الكبير. إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة، إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود. ومن هنا كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا كان في الشدة قال: أرحنا بها يا بلال. ويكثر من الصلاة إذا حزبه أمر ليكثر من اللقاء بالله".

بالصلاة تسير في الحياة كالطفل الذي يخطو في ماء البحر تتلاشى الآثار شيئاً فشيئاً، وتذوب وتعود مهما سار بك الزمن إلى بكارة عهدك.

للصلاة كما للبحر سحر الأشياء التي لا تسكت آناء الليل، التي تمكن حياتنا القلقة من النوم وتعد بأن كل شيء لن يتقوض، كالوناسة التي توضع للأطفال في غرف نومهم ليشعروا بأنهم ليسوا وحدهم.

لا شيء قادراً على إعانتك في تلك الحياة وتوجيه دفتك نحو هدفها إلا الصبر والصلاة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبدالله عثمان
محرر وباحث في الأدبيات الاجتماعية
تحميل المزيد