في يوم من الأيام، أثناء رحلتي لمكة المكرمة لتأدية العمرة وصلاة العيد، أوقفت سيارتي أسفل الفندق الذي نزلت به، وعندما هممت للذهاب لصلاة الجمعة لم أجد السيارة، فلم يتصور عقلي أن المرور ربما رآها في موقع مخالف فسحبها، ولم يتصور أن البلدية هي التي قامت بذلك، في إطار حملاتها الدورية لتهيئة شوارع مكة أثناء مواسم الازدحام، بل غلب على عقلي أن أحدهم سرقها، فبقيت واقفاً لدقائق أفكر في أسوأ السيناريوهات.
اتصلت على المرور فأخبرني مَن ردّ عليَّ أن السيارة ليست في حوزة المرور، فقمت بتحميل تطبيق الأمانة، وأدخلت بيانات السيارة، فوصلتني رسالة بأن سيارتي ليست ضمن السيارات المسحوبة.
بعد دقائق قررت أن أسأل المارّة لعلَّ أحدهم يملك معلومة، فتقدم نحوي شاب من أهل البلدة الطيبة، وقال لي كلاماً أفسد علي يومي، فقد اختار كلمات عزَّزت التصورات السلبية في عقلي ونفسي، ومن ضمن ما قال "الله يعينك استعوض ربنا"، "سوف تبحث كثيراً! وأرجو أن تعثر عليها"، ونحو ذلك من كلمات لا تحمل أية بشارات، ومن التأثير السلبي لكلماته وقفت في الحر الشديد، دون قدرة على التصرف أو إعمال العقل.
وما هي إلا دقائق وأقبل نحوي رجل ستيني من أهل مكة، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة ساحرة، كانت أقوى من كل قوانين الجاذبية للقلب والروح، فنسيت معها ما عانيت من كلام الشاب الأول.
ثم أكد لي بعد الاستفسار منه أن سيارتي لم تُسرق، وأنها في مكان ما خلف هذا الجبل الذي أشار إليه بيده، وأخبرني بأنه موقع تابع للبلدية، تتجمع فيه السيارات المسحوبة، ثم طلب مني الركوب معه، وتوجهنا إلى المكان، وبالفعل وجدت السيارة بفضل من الله.
توجَّهت له بالشكر الجزيل، والدعاء، ومضيت في طريقي، وبقِيَ موقف الرجل ماثلاً أمامي بطول الطريق يغذّي في داخلي طاقةً إيجابيةً هائلةً، تتجاوز ما يكفي لصَهْر المشاعر، لتُحوّلها إلى بيضاء اللون، ناعمة الملمس، قابلة للطَّرْق والسحب، لِتتشكَّل منها منتجات السعادة لنفسي وللآخرين؛ فلقد راودني شعورٌ طاغٍ بالوقوف على ناصية الطريق لمساعدة الناس في غدوّهم ورَوَاحهم.
وبعد أيام مازالت نفسي تتأمل تأثير "الكلمة الطيبة" و"الكلمة غير المحسوبة" على النفس، وتذكّرت واقعةً أليمةً قد وقعت قبل فترة ليست ببعيدة، حينما مات عامل بسيط من عمال أحد المصانع بسبب كلمة.
فعلى ضيق ذات اليد حرص العامل البسيط في زواج نجله على إعداد وليمة لزملائه في العمل وجيرانه وأهله، غير أن زميلاً له علَّق على الوجبات التي قدَّمها الرجل، وتفوَّه بكلمات تحمل كثيراً من السخرية، ووصلت السخرية إلى والد العريس، فحصل له هبوط حاد في الدورة الدموية فمات في الحال.
الكلمة ليست مجموعة حروف، بل هي الفرن الذي تدخله النفس فتتشكل، وهي العقار الذي يدخل على صحة الإنسان فتتبدل، هي السحر، هي ترياق الحب، وترفع بسحرها المكتئب إلى قمة إيفرست.
كل ابن آدم بحاجة إلى الكلمة الطيبة والتحفيز والتشجيع، باعتبار أن ذلك يمثل الداعم النفسي الذي يبعث على الإنجاز، وكل بني آدم لديهم القابلية للعمل والفعل، لكن غياب الدافع قد يطفئ حماستهم.
والإنسان مهما بلغ من القوة والصرامة والحماسة، ومهما اتَّسعت مذاهبه، فليس ببالغٍ وجهته بين ركائز الحياة لولا الكلمة التي تبعث الأمل في الروح، بشرط أن تخرج بإخلاص وصدق.. حينها ستسري في روح المتلقي فيستروح منها ما يروح عن قلبه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.