كثرت في الآونة الأخيرة ظاهرة حرق المصحف الشريف، في الدول الغربية – الديمقراطية، والتي تُبرر المسألة على أنها من باب الحرية التي يتمتع بها الفرد عندهم وهي حرية بلا حدود، حتى لو جرحت مشاعر الآخرين أو أهانتهم بأساليب مضحكة.
وإذا كان الأمر متعمداً أو بتخطيط مسبق غايته إثارة الفتن بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات السماوية أو لم يكن، ولكن تبقى المسألة بعدم وجود رد فعل مماثل من قِبَل المسلمين في حرق الكتاب المقدس لدى المسيحيين في الغرب والشرق، والكتاب المقدس يتكون من العهد القديم (التوراة وأسفارها)، وهو مقدس لدى اليهود فقط، والعهد الجديد (الأناجيل الأربع والرسائل)، وهي مقدسة مع العهد القديم لدى المسيحيين.
والسبب في غاية البساطة إذا علمنا أن الكتاب المقدس يحظى بالاحترام الكامل من قبل المسلمين، لأن القرآن يفرض عليهم هذا الاحترام على أن التوراة والإنجيل كتابان منزلان من الله على موسى والمسيح، عليهما السلام، وأن عدم الاتفاق على كل شيء فيهما في بعض الأحكام والروايات بسبب ما اعتراهما من تحريف على أيدي الكهنة والأحبار، وهو اعتقاد لدى المسلمين لا يجرح بالكتابين من جهة التقديس والاحترام.
فقد جاء بشأن عيسى، عليه السلام (وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) "المائدة: 46″، ورفع القرآن مريم العذراء إلى مرتبة لم تصلها في غيرها، بقوله تعالى: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) "آل عمران: 42".
ومع أننا على اختلاف عقائدي مع المسيحيين، خصوصاً بمسألة التثليث والصلب، إلا أن ذلك لم يمنع من النظر للإنجيل نظرة احترام وتقدير، علماً أن كلمة الإنجيل ذُكرت في القرآن اثنتي عشرة مرة، ولم يذكر المسيح عيسى (عليه السلام) في طول القرآن وعرضه إلا بخير، كقوله تعالى: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴿٥٤﴾ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿٥٥﴾ "آل عمران: ٥٤ و٥٥".
وفي هذا السياق يأتي احترام التوراة التي ذكرت (18) مرة في القرآن، فبعد إجلاء اليهود عن خيبر (7هـ)، سمح لهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأخذ كتبهم المقدسة معهم، كما ذكر ذلك إسرائيل ولفنسون وهو مؤرخ يهودي صاحب كتاب "اليهود في بلاد العرب"، مما يدل دلالة قاطعة على احترام الرسول (صلى الله عليه وسلم) للتوراة.
وفي القرآن نقد لليهود وليس للتوراة، بقوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) "الجمعة: ٥"، وقوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) "المائدة: ٤٤"، وقوله تعالى: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ) "آل عمران: ٣".
ورغم الثغرات التي لا تحصى، خصوصاً بما يتعلق بقصص الأنبياء من زنا وشرب الخمر والتي لم ينجُ منها حتى داود وسليمان، عليهما السلام، وغيرهما من الانبياء، إلا أن القرآن لم يسقط قدسية التوراة، ولكن عزا الأمر للتحريف ولا غير، الذي اعترى التوراة على مدى أكثر من ثلاثة آلاف عام، كما يقول اللاهوتي سبينوزا.
ولم ينكر القرآن على بني إسرائيل اختيارهم من قِبَل رب العالمين لحمل الرسالة التي انحرفوا عنها، فكان تفضيل -تأنيب- بقوله تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) "البقرة: ٤٧".
والموضوع ذو شجون، ولا نريد الدخول في متاهات العقائد واختلافاتها، ولكن القرآن لم يعلمنا إلا احترام التوراة والإنجيل رغم الاختلافات التي بيننا.
فهل وعى من يقف خلف حرق القرآن أنهم لا يقومون إلا على إهانة أنفسهم، لأنهم لم يقرأوا لا القرآن ولا التوراة ولا الإنجيل؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.