تَحِلُّ، في أغسطس/آب 2023، الذكرى العاشرة لأسوأ مذبحة في تاريخ مصر، والتي قتل فيها الجيش المصري زهاء 1000 من المواطنين المصريين دون أن يرف لجنوده جفن، في غمار الاحتجاجات التي شهدها ميدان "رابعة العدوية" في القاهرة قبل عقد من الزمان. وكانت الغاية من المذبحة هي التأسيس لحقبة غير معهودة من القمع والوحشية رسَّخت أركان الحكم القادم للجنرال عبد الفتاح السيسي.
كان هؤلاء المصريون قد تجمعوا في القاهرة لدعم محمد مرسي، الرئيس الأول والوحيد المنتخب ديمقراطياً في تاريخ البلاد. وقد كنت أحد المشاركين في إدارة هذا الرئيس، ويسعني القول بضمير مرتاح إننا وإن كنا ارتكبنا أخطاءً أثناء وجودنا في السلطة، إلا أنه لا يوجد من بين هذه الأخطاء ما يقترب من قدر الإجرام والفساد والوحشية الصريحة التي كانت سمة من سمات السنوات الستين السابقة، والسنوات العشر التي تلت ذلك.
إن الديمقراطية عمل شاق، ولم تكن تجربة مصر القصيرة مع الديمقراطية مثالية، أو حتى بالضرورة جيدة، ولكن الديمقراطية تتحقق من خلال خطوات متقطعة على مراحل، لا بقفزة واحدة.
كانت مصر تستحق الدعم لتجربتها في التحول الديمقراطي، لكن من الواضح أن ذلك لم يكن الموقف الذي اتخذه الغرب عموماً، ولا الولايات المتحدة خصوصاً. فعلى الرغم من أن المسؤولين الغربيين يتحدثون كثيراً عن الديمقراطية، إلا أن وعودهم بتعزيز الديمقراطية لا ينالك منه شيء إلا إذا كنت تعيش في مكان تكون فيه الديمقراطية وسيلة لتثبيت نظامٍ يخدم المصالح الغربية.
أما إذا كنت تعيش في مصر أو باكستان مثلاً، فمن الواضح أنهم لا يفضلون الديمقراطية في بلدك بقدر تفضيلهم لزمرة المستبدين القدامى. ومن ثم، فإن رسالة الغرب لشعوب هذه البلدان رسالة مختلفة، مفادها: أنتم لا تستحقون الديمقراطية، ولا يمكنكم حتى أن تحاولوا بلوغها. لا يمكنكم أن تفشلوا وتحاولوا مرة أخرى. بل أنتم تستحقون نظاماً مستبداً وحشياً، قمعياً، فاسداً، يعيقكم عن أي تقدم وتطور. وسيطلق الغرب على كل ذلك اسم "الاستقرار".
وهذا بالضبط ما دعمته الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وروَّجته ودعمته في مصر. فقد رفض الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بحزمٍ أن يلتقي مرسي خلال السنة التي قضاها في منصبه، لكنه التقى السيسي في غضون عام من قتله آلافاً من المصريين وسجنهم.
ولم تكن السياسة الأمريكية إزاء مصر في عهد الرئيس جو بايدن -الذي ادعى أنه يسعى إلى تعزيز الديمقراطية وعقد قمة لهذا الغرض- مختلفة عن تلك التي اتبعها سلفه، دونالد ترامب، الذي كانت لديه على الأقل لياقة التصريح بالحقيقة كما هي، دون تهذيب ولا مواربة.
دعم الطغاة
وهذا الدعم الغربي للاستبداد لم يقتصرعلى الممارسة الخطابية فحسب، بل جاء مصحوباً بمليارات الدولارات من التمويل والمساعدات العسكرية والمصداقية في الساحة العالمية.
من المفارقات العجيبة أن يرى الأمريكيون في السنوات الأخيرة أن الديمقراطية في بلدهم تتعرض للهجوم والخطر، بينما لا يلقون بالاً للنضال من أجل الديمقراطية في أماكن مثل مصر، إذ ينظرون إليها على أنها ذات طبيعة مختلفة تماماً، وذلك على الرغم من أن السياسة الأمريكية في دعم الديكتاتوريين والمستبدين تؤثر تأثيراً كبيراً في حياة ملايين من الناس. وقد أدت هذه السياسة في مصر إلى قتل وسجن واختطاف الآلاف ممن أبدوا أية بادرة معارضة للنظام في الداخل، فضلاً عن التضييق على المنفيين خارج البلاد.
الطفلة التي كانت في العاشرة من عمرها عندما سُجن والدها قبل عقد من الزمن -لا لشيء سوى السعي من أجل أن تكون مصر حرة وكريمة- صارت الآن شابة تبلغ من العمر 20 عاماً. والفتاة التي كانت تبلغ من العمر 15 عاماً وقت الانقلاب، باتت تبلغ من العمر الآن 25 عاماً. فماذا يا ترى سيكون رأيهما في الولايات المتحدة؟
والمرأة التي تعرضت للاعتداء الجنسي على أيدي قوات أمن السيسي، ما هو يا ترى شعورها تجاه داعميه في الولايات المتحدة؟ والمنفيون، الذين أجبروا على ترك بيوتهم وأهليهم، ثم رُفضت طلبات لجوئهم من قبل بلدان تدعم السيسي، كيف ينظرون إلى الولايات المتحدة؟
ويا ترى كيف ينظر المصريون عموماً إلى الغرب، وتقاعسه المستمر عن دعم حقوقهم الأساسية؟ الجواب هو: ينظرون إليها بقدرٍ متزايد من اللامبالاة، إن لم يكن العداء الصريح.
قبل 10 سنوات، كان كثير من الناس لديهم الاستعداد لفتح صفحة جديدة، ونسيان السياسات السابقة، مثل الدعم الغربي لانقلاب إيران في الخمسينيات، والدعم المطرد للانقلابات في أمريكا الوسطى. بل شاع تصور مثالي بأن المصريين يمكنهم أن يعولوا على دعم الغرب للتحول الديمقراطي. لكن هذه الظنون الحسنة قد ولَّت.
بعد مرور10 سنوات على ترحيب الغرب بالقتل الجماعي للمصريين، فإن النظام الذي قوبل بالبشر والترحاب، وفُرشت السجاجيد الحمراء لاستقباله، صار واضحاً للجميع أنه نظام فاشل، ترك مصر في حالة من الدمار الشامل.
رغم ذلك ما زالت هناك فرصة أمام الغرب ليحول أقواله إلى أفعال. فعلى الرغم من أن المصريين ليس لديهم أمل كبير في أن تجلب الانتخابات المقبلة تغييراً ذا مغزى، فإن الغرب بإمكانه على الأقل أن يكفّ عن نفاقه، وأن يدعم إجراء انتخابات تكون بحق حرة ونزيهة.
لكن في الحقيقة من المستبعد أن يحدث هذا، ولم يعد لدى المصريين أية ثقة بخطاب الغرب حول تعزيز الديمقراطية. وهناك حادثة شهيرة جديرة بأن تُستدعى في هذا السياق، وهي تدور عن رئيس أمريكي لم يكن يحسن ضبط مصطلحاته، لكنه ما لبث أن لملم شتات فكره، ناصحاً كل بلد نامٍ يسعى نحو الديمقراطية: لا، لن تتمكنوا من استغفالي مرة أخرى.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.