كيف يعالج القرآن مشاعرنا؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/08/17 الساعة 14:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/08/17 الساعة 14:47 بتوقيت غرينتش

قلت لنفسي ذات ظهيرة، وأنا أتلوى من آلام في المعدة: كيف تكون الكلمة شفاء؟! تذكرت عمي وقد أصابه داءٌ عضال رافقه 10 سنين حتى ذهب به إلى مثواه الأخير، كان يقول لي: كل آلام الدنيا تهون ما دمت عرفت معناها، كل يوم يطلع أحمل آلامي إلى القرآن لأجد معناها، أقرأ سورة الفرقان حتى يأتي قول الله {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} فتحملني تلك الكلمة الأخيرة وسط آلامي التي تتحول لظلال ناعمة إلى معية ربي الذي ابتلاني، فأعود مردداً إياها وطعم حلاوتها اللاذع لا يفارق فمي، بلى يا رب، بلى يا رب، تذكرت حالي وأنا عليل النفس مما أراه من علو للطغيان والسفاهة، فأسمع قوله تعالى "فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا" فأهدأ وترتقي نفسي في مراتب الثقة من جديد، كيف تشفي الكلمة؟ وهل غير الكلمة داء ودواء لنا نحن البشر؟ وصدق من قال الكلمة نور وبعض الكلمات قبور، كيف تشفي الكلمة؟ ستعرف إن عرفت كيف تقتل الكلمة.

فإن كنت مثلي تطلب الشفاء، أينما كنت، وعلى أي حال أنت، في إقامتك وترحالك، في أفراحك وأحزانك، تائهاً أو راغباً، خائفاً أو حزيناً، تريد قبساً من هداية، أو كلمة من نور، أو قصة أمل، أو لحظة وصل، أو كلمة زجر وتنبيه، تنتظر رسالة ما، فافتح نوافذ قلبك واترك رسائل القرآن تتدفق إلى ضميرك، ففي القرآن شفاء ورحمة، فما هي رسائل القرآن إلى مشاعرنا المتأججة؟

 بين السنبلة والصفوان

هل تضمن أن تجني ثمار ما تعمل؟ أم تخاف من ضياع الجهد هباءً؟ كثير من الناس يشتكي من قلة التوفيق وضياع ما بناه بجهد سنوات في لحظات، فما الذي يضمن لنا حفظ ما نحث الخطى ونجهد الأجساد والعقول في تحصيله في أيام تدور فتجعل الغني فقيراً والقوي ضعيفاً والعالم ناسياً. قبل مطلع القرن العشرين اجتهد العلماء في محاولات مضنية لتصنيع المطاط نظراً لارتفاع سعر المطاط الطبيعي، وبعد سنوات من الجهد والعمل قامت الحرب العالمية الأولى، وانهارت أسعار المطاط وذهب جهدهم سُدى، والعالم عبر تاريخه مليء بتلك القصص التي رجع فيها أصحابها بخُفي حُنين كما يقولون في المثل، حين تحاصر تلك الأحوال الإنسان قد تدفعه لليأس والاستسلام للضياع والقعود عن السعي، فكيف السبيل بعيداً عن ذلك؟

القرآن ينتشلنا من تلك الحال؛ إذ يجعل ضمان الجهد عند الله الذي لا تضيع ودائعه، يقول تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} (الكهف الآية 30). فإذا قصدت بسعيك غير وجه الله، فأنت تعرضه للضياع والخسارة، ولكي يبث القرآن في نفوسنا تلك الرسالة جسدها في مقابلة بديعة بين مشهدين، في المشهد الأول ننظر إلى تاريخ السنبلة، وحال الحجر الصنوان إذ يجلوه الماء، والقرآن يحكي المقابلة بينهما بالتصوير البارع الذي يضعنا في حياة الصورة ومعناها الجلي الواضح، فهذه 7 سنابل نبتت من حبة واحدة، وفي كل سنبلة 100 حبة، وهذا حجر حمل تراباً فجاء المطر الشديد ليجلوه كأنه هباء، مشهد فيه الإزهار والنمو والبهجة، ومشهد فيه الجمود والضياع،  يتجسد في الأول الإنفاق في سبيل الله، وفي الثاني الإنفاق رياءً، فالذين ينفقون في سبيل الله من أوقاتهم وخبراتهم وصحتهم وأموالهم هم كالحبة التي تنبت وتخضر  يزداد خيرها ويفيض، ويخلد أثرها وتمتد جذورها، أما الذين  ينفقون كل ذلك رئاء الناس فهم كالصفوان أو الحجر الأملس  لا يحفظ جهداً ولا يُزهر ثمراً.

لتكون الرسالة الواضحة أن الضمان الأوحد لحفظ السعي عند الله وحده، إنها رسالة ربانية تدلنا على الطريق الذي ننمو فيه ونزهر، ونحفظ سعينا وننجو من الخسارة الحتمية لكل المنشغلين بأنفسهم ودنياهم.

فأين تصورت نفسك في المشهدين؟!

حكمة المكابدة

قابلني وقال لي: تخرجت للتو في الجامعة، وخائف من الحياة! أسمع كثيراً عن صعاب العمل وتحديات الحياة وأزماتها، وأخشى أن ينالني منها سوء لا أحتمله، فهل من طريق أتجنب فيه كل ذلك؟

إن الحياة هكذا خُلقت، تعب ومكابدة، يقول الله عز وجل "لقد خلقنا الإنسان في كبد" فلا يصل الإنسان لجوهر أي أمر إلا بالمرور بتلك المكابدة، من تلك المكابدة ينضج الإنسان، ومن خلال ما يمر به من تحديات على أرض الواقع وصعوبات يكتسب الخبرات اللازمة ليقوم بواجباته، لم يخلق الله -عز وجل- الإنسان في كبد ومشقة بلا غاية، بل لغاية تأهيله وإعداده لحمل الأمانة والخلافة في الأرض وإعمار الحياة، فمرور الإنسان بالمواقف الصعبة يضغط عليه للتفاعل معها والتفكير في حلها والخروج منها، ما يدفعه لاكتشاف قدراته وإدراك أدواته.

حتى في أمر الدين، فلا يقوى الإيمان ويشتد وتتضح معالم صدقه ومنارات رشده إلا بالابتلاء، يقول تعالى: "أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين".

وفي علم النفس يرى عالم النفس الدنماركي، إيريك إريكسون أن النفس تنضج وتنمو من خلال الأزمات التي تمر بها، حيث يمر الإنسان وفقا لهذا التصور بثماني مراحل متتالية عبر عمره بدءاً من طفولته وحتى شيخوخته، لكل مرحلة من تلك المراحل أزمة ما تنشأ من العلاقة مع الذات ومع الآخر، وهنا يرى إريكسون ضرورة معايشة كل أزمة بالكامل لكي تحصل النفس على نموها النفسي السليم الذي يؤهلها للتعامل مع تحديات المراحل المتعاقبة.

وفي التاريخ اتفق المؤرخون أن من أسباب ضعف وانهيار الدول هو طبقة الحكام المتأخرة والتي تأتي في كل مرة أضعف بكثير من الطبقات السابقة، والسبب في رأي المؤرخين وعلى رأسهم ابن خلدون هو نشأة تلك الطبقة من الحكام وسط الترف والوفرة، دون المرور بأزمات حقيقية ومكابدة تجارب يكون لها الأثر في بناء شخصية القائد، ونضج رؤيته.

فكابد في الحياة عن طيب نفس، واعلم أن الله إنما يبتليك ليفتن إيمانك كما يفتن الصاغة الذهب، فيذهب عنه أي كدر في صفائه وبهائه.

الحصار

القلعة لا تعرف عونها حقاً من خاذليها إلا وقت الحصار، فحينها تنقطع عنها أسباب الحول والقوة، وتستشعر بأن كل سبيل إلى النجاة قد سدت، لذا فإن أكبر شعور بالمعية الربانية يكون وقت الأزمة الشديدة حين تنقطع عنا الأسباب، ونبقى محاصرين.

في قصة الثلاثة الذين خُلفوا، يصف الله حالهم في قوله {حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم} وهنا وصف لصدقهم أكثر منه وصف لبلاء نزل بهم، فقد عُرض عليهم من أعداء الإسلام أن ينزلوا ضيوفاً كراماً عندهم، وكان من الممكن أن يجدوا في العزلة براحاً كما يجد بعض الناس، لكنهم صدقوا في طلب معية الله، فرأوا الأرض دونها ثقب إبرة، ورأوا أنفسهم بعيداً عنها أرض للجحيم.

ولعل هذا كان سبب المقاطعة التي فرضت عليهم لتظهر حقيقة صدقهم وجهادهم ضد هوى أنفسهم، ويلجأون حينها إلى الله لجوء الصادق الذي لم يبقَ له أحد، النافر من هوى نفسه وظلمها، ويبدو أنهم قد عانوا كثيراً قبل أن تقبل توبتهم، وقد كان من السهل عليهم الخروج من الموقف كما بقية الآخرين بتقديم أعذار ولو كذباً إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لكنهم اختاروا الطريق الأصعب، طريق الصدق ليطهروا أنفسهم، وعلى قدر تلك المعاناة مع تفضيل طريق الصدق رغم صعوبته كانت التوبة عليهم عظيمة للدرجة التي نزل معها نص إلهي خالد يتعبد الناس به إلى قيام الساعة.

هنا وكأننا نرى حبائل الكذب القصيرة التي ظنت لوهلة أنها امتلكت اللحظة على حقيقتها، وحبل الصدق الممدود في خلود رغم قسوته على النفس، ولعل ما حدث للثلاثة من فتنة عظيمة قاطعهم فيها المؤمنون مع رسول الله حتى ضاقت عليهم الأرض كان إرشادا لأرواحهم إلى الله ومعيته حيث لم يعد لهم ملجأ سواه، ولما صدقوا في المحنة صدق الله معهم فأوفاهم سبحانه منه إليهم مباشرة ما استحقوه من توبة وفوز لما صدقوا.

يقف موسى -عليه السلام- ومن خلفه قومه أمام البحر، ومن خلفهم جيش فرعون يتعقبهم مبيتاً النية لقتلهم، يستشعر أصحاب موسى الخطر، الحصار، النهاية، يقولون إنا لمدرَكون، هنا يصل شعور يوسف بالمعية الربانية إلى ذروته، يقول: {كلا إن معي ربي سيهدين}.

وها هو حبيبنا وقدوتنا، النبي المجتبى -صلوات الله وسلامه عليه- مع صاحبه الصديق في الغار، والمشركون على رأسه لو نظر أحدهم عند قدميه لرآهما، لحظة يواسي فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- صاحبه أبي بكر -رضي الله عنه- ويقول: لا تحزن إن الله معنا.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبدالله عثمان
محرر وباحث في الأدبيات الاجتماعية
تحميل المزيد