توافق هذه الأيام الذكرى السنوية الـ 94 لثورة البراق التي كانت محطة مفصلية في التاريخ الفلسطيني؛ إذ كانت أول انتفاضة فلسطينية على محاولة تهويد القدس في عهد الانتداب البريطاني.
حائط البراق هو السور الغربي للمسجد الأقصى، ومنذ بداية العهد العثماني قبل 500 عام بدأ اليهود بالحج إليه والوقوف عنده والبكاء على الهيكل المزعوم، حيث كان يمنع دخول غير المسلمين للأقصى، وأطلق اليهود تسمية حائط المبكى على البراق، إلا أنه لم يسمح لهم باستحداث أي منشآت عند الحائط.
بعد الاحتلال البريطاني لفلسطين، بدأ الصهاينة يطالبون بحقهم المزعوم في حائط البراق (المبكى)، وبرزت هذه الأطماع إلى الواجهة في 15 أغسطس/آب 1929 عندما نظّم أتباع جابوتنسكي زئيف فلاديمير، الأب الروحي والسياسي لحركة (الحيروت)، مسيرة في القدس ورددوا هتافات مثل "كوتيل كوتيلنو" – وتعني "حائط المبكى حائطنا"، بالتزامن مع شتم المسلمين.
وللعلم، كانت هذه المناسبة حاضرة في أكثر من محطة لاحقاً؛ مثل مجزرة المسجد الأقصى عام 1990، وزيارة أرئيل شارون التي فجرت انتفاضة الأقصى، وآخرها كان الاعتداء على المصلين في عيد الأضحى هذا العام.
يعد جابوتنسكي هو الأب الروحي لليمين الصهيوني، ومؤسس حزب حيروت (الليكود)، كما أسّس بيتار وهي منظمة شبه عسكرية متأثراً بشبيبة النازية التي أسسها هتلر، وكانت منظمة بيتار هي رأس حربة جابوتنسكي في القدس والمظاهرات المطالبة بالاستيلاء على حائط البراق. وما زال مشجعو فريق "بيتار أورشليم" لكرة القدم، وهو امتداد لمنظمة بيتار، يشتمون المسلمين والعرب في هتافاتهم ويؤلفون أغاني بذيئة بحقهم وحق معتقداتهم.
أحداث ثورة البراق
بعد مسيرة أنصار جابوتنسكي خرجت مسيرة من مسجد الأقصى يوم الجمعة 16 أغسطس/آب، الذي وافق ذكرى المولد النبوي الشريف، وقام الشبان بإتلاف الطاولات وأدوات الصلاة التي وضعها المستوطنون عند حائط البراق؛ إذ كان ينوي اليهود الاستيلاء عليه، فوقعت صدامات عنيفة بين الجانبين عمّت معظم فلسطين.
وتوالت بعدها اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين في القدس، مما أدى لإطلاق دعوات للتوجه إلى الأقصى يوم الجمعة 23 أغسطس/آب من أجل حمايته من اعتداءات الصهاينة، واستجاب للدعوة المئات من القرى المحيطة بالقدس، واندلعت بعد الصلاة مواجهات عنيفة في البلدة القديمة امتدت إلى كافة أنحاء المدينة.
شهدت فترة الثورة اشتباكات عنيفة بين الفلسطينيين وبين اليهود وقوات الانتداب في مدن متعددة منها الخليل، وصفد، والقدس، ويافا، بالإضافة إلى مدن أخرى في فلسطين. استمرت هذه الاشتباكات عدة أيام.
بلغ مجموع القتلى الصهاينة في كافة المناطق 133 فيما استشهد 116 فلسطينياً غالبيتهم برصاص القوات البريطانية، واعتقل المئات من الفلسطينيين وحكم على 26 منهم بالإعدام ونفذ في 3 منهم، وهم: محمد جمجوم، وعطا الزير من الخليل، وفؤاد حجازي من صفد، فيما خفضت أحكام الأعدام الأخرى إلى السجن المؤبد.
أعاد الاحتلال البريطاني في عام 1930 المستوطنين إلى بعض المناطق التي طردوا منها؛ مثل الخليل ومستوطنات عصيون وقلنديا وعصيون، إلا أنه مع اندلاع ثورة 1936 طردوا مجدداً.
عقب أحداث ثورة البراق، اتخذ مجلس عصبة الأمم قراراً في 14 يناير/كانون الثاني 1930 بتشكيل لجنة بشكل سريع، وقد اقترحت الحكومة البريطانية أسماء أعضائها. كانت مهمة هذه اللجنة هي النظر في "مسألة حقوق ومطالب المسلمين واليهود بخصوص حائط المبكى (البراق)".
في الأول من ديسمبر/كانون الأول 1930، انتهت اللجنة إلى استنتاجاتها حيث أشارت إلى أن ملكية حائط البراق تعود إلى المسلمين، وأن لهم حق الامتلاك الحصري فيه. رأت اللجنة أيضاً أن الحائط الغربي هو جزء لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف، وهذه الساحة تعتبر جزءاً من أملاك الوقف.
تداعيات ثورة البراق
أدرك الفلسطينيون أن مجرد الاحتجاج والاعتراض لدى سلطات الاحتلال البريطاني لن توقف التمدد الصهيوني في فلسطين، وأن البريطانيين شركاء المشروع الصهيوني وليسوا طرفاً محايداً، وهذا ما أكد عليه لاحقاً الشهيد عز الدين القسام، ولهذا كانت ثورة 1936 موجهة ضد الاحتلال البريطاني بالدرجة الأولى.
كانت ثورة البراق عفوية وغير مخطط لها إلا أنها كانت بداية الاهتمام بالمقاومة المسلحة، وهكذا أنشأ القسام الخلايا العسكرية الأولى ابتداءً من عام 1930 وصولاً إلى استشهاده في أحراش يعبد عام 1935، ثم الثورة الكبرى من 1936 إلى 1939.
كما أدت ثورة البراق إلى المفاصلة بين اليهود والفلسطينيين ولم يعد هنالك قبول بالبؤر اليهودية في المناطق الفلسطينية، حتى لو كان وجودها قديماً قبل الهجمة الصهيونية، فالاستقطاب بلغ أوجه واختارت الغالبية الساحقة من اليهود الاصطفاف مع المشروع الصهيوني.
أدت الهجمات على التجمعات اليهودية وطرد المستوطنين من مناطق كثيرة إلى تجمعهم وتكتلهم في المناطق التي يشكلون فيها أغلبية، وهي ذات المناطق التي يوجد فيها الثقل السكاني اليهودي الأكبر حتى يومنا هذا؛ تل أبيب الكبرى وحيفا والمنطقة الساحلية بينهما بالإضافة للقدس الغربية (يعيش اليوم في هذه المناطق التي تشكل ربع مساحة فلسطين حوالي ثلاثة أرباع اليهود).
من الصعب الجزم بتطور الأحداث بدون ثورة البراق لكن يمكن القول بأن عدم السماح للمستوطنين بالانتشار في كافة مناطق فلسطين وحشرهم في مناطق جغرافية ضيقة أنقذ الكثير من المناطق من التهجير خلال النكبة عام 1948، فقد ساهم يهود صفد وطبريا بتهجير منطقة الجليل الشرقي، وربما تكرر نفس الشيء في الخليل لو لم يتم تهجير اليهود منها في ثورة البراق.
على سبيل المثال، أيضاً كانت مستوطنة قلنديا منطلقاً لعدة هجمات في بداية حرب عام 1948 لكن الوجود السكاني الضعيف نتيجة كثرة الهجمات ساعد في سقوطها في شهر مايو/أيار عام 1948. في الختام: اندلعت ثورة البراق رداً على أطماع الصهاينة في المسجد الأقصى، وما زال المسجد في مركز الصراع مع الاحتلال الصهيوني حتى يومنا هذا. كانت ثورة البراق محطة هامة في تشكيل الوعي الفلسطيني بأهمية حمل السلاح لمواجهة المشروع الصهيوني، كما استطاعت حصر التمدد الصهيوني في المناطق الساحلية وهذا أهم إنجازاتها حسب رأيي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.