لماذا أحب مقهى عم ممدوح وأكره ستاربكس؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/08/16 الساعة 15:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/08/16 الساعة 15:06 بتوقيت غرينتش
مقاهي في القاهرة - shutterstock

في كتابه الجميل "اللا أمكنة" يحدد عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي مارك أوجيه 3 شروط أساسية لاعتبار المكان "مكاناً أنثروبولوجياً"، وهي أن يكون هوياتياً، وعلائقياً، وتاريخياً، وبناءً عليه فإن انتفاء جميع هذه الشروط أو بعضها يحوّل الحيّز الذي نتحدث عليه إلى "لا مكان"، وقد ضرب أمثلة بالمطارات والفنادق والطرق السريعة والمولات كنماذج للا مكان، وأنا هنا أضيف لتلك الأمثلة الكافيهات الحديثة.

فعلى سبيل المثال إذ نظرنا لمقهى أو شركة "ستاربكس" في مصر سنجده يطمس ملامح رواده وينمطهم، ويعجز عن خلق هويات فريدة أو حتى الدخول في علاقة جدلية مع الهويات القائمة، سنجده حيزاً محايداً ومصطنعاً، تنظر إلى رواده فتجدهم أقرب لعارضي الأزياء، ينطقون الكثير من الكلمات الإنجليزية ويعبرون عن دهشتهم باستخدام لكنة عربية مريبة، ويضحكون ضحكات مصطنعة جداً، ويمارسون نوعاً من الكوميديا ربما يمكن أن نسمية "كوميديا الكمباوندات"، كتلك التي تعرضها بعض برامج السوشيال ميديا الخاصة بعوالم طبقة معينة في مصر.

ولذلك كلما دخلت مضطراً الى ستاربكس أو أحد نسخه ينتابني شعور بضيق التنفس وعدم الارتياح، فرغم التناسق الهندسي الآلي الميكانيكي لهذا الحيز إلا أنك لا تشعر فيه بالجمال الملغز ولا بالحميمة التي تشعر بها عادة عند وجودك على مقهى شعبي، مثل مقهى عم ممدوح في حي السيدة زينب بالقاهرة. وبدلاً من ذلك تجد مقاعد ومناضد وديكورات وواجهات زجاجية وقائمة مشروبات بأسماء أجنبية يلزمها دراسة قبل طلب إحداها، وربما تحتاج لمهندس كيميائي لاختيار الإضافات الكثيرة. فتشعر بانعدام البساطة في حضور التكلف الزائف حيال كل ما يحيط بذلك الحيز الذي يطغى على كل ما هو إنساني وحميمي.

ستاربكس – shutterstock

ما يخطر على بالك وأنت هناك أنك في حيز معقم من التاريخ لا يحمل أية جذور، وليست له هوية، إنه حيز ومساحة يمكن أن توجد في أي زمان وفي أي مكان بالشكل نفسه، حيز يعيد اجترار اللحظة الراهنة إلى ما لا نهاية، كما يعد أنه لن يقلع معك إلى المستقبل أبداً، فتجد ذكرياتك عنه تنزلق من سطح ذاكرتك فور خروجك منه.

 يقول مارك أوجيه في أحد فصول كتابة "المكان، في معناه الأنثروبولوجي": "لا يكون مكاناً إلّا بما يَنتسِج ويثبت فيه من رموز ومعانٍ، عبر المسارات والعلاقات والأفعال والأحاديث وما ينبعث فيها من احتمالات. كل مكان لا هويّة له ثابتة، لا تُنسَج فيه العلاقاتُ ولا تستمرّ… لا ملامحَ تاريخيّة له، هو واحد من هذه "اللا أمكنة" التي أنتجتها "الحداثة المفرطة" وجعلتها من سمات هذا العصر".

ولأن تلك النوعية من الكافيهات هي لا مكان بامتياز، فإنك لا تشعر أنك بداخلها، بل تشعر أنك تتزلق على سطحها الخارجي الأملس، حتى إحساسك بمن يجالسك المنضدة نفسها يظل وكـأنك تشاهده من خلف زجاج سميك وبارد، وهنا نستشعر ما نوّه إليه أوجيه بأن "الحداثة المفرطة" فرضت على أشكال الوعي الفردي أن يختبر تجارب جديدة من العزلة ترتبط مباشرة بظهور "اللا أمكنة" وانتشارها. هذه "اللا أمكنة" هي نقيض السكن والإقامة، من يرتادها هو فيها وحيدٌ ومشابهٌ للآخرين في الوقت نفسه. لا يمكنه إخفاء هويته فيها إلا بإظهار ما يثبتها "جواز سفر، بطاقة مصرفية… إلخ"، فهو معها في علاقة تعاقدٍ عابر تنتهي بخروجه منها.

بينما في مقهى عم ممدوح "المكان الأنثروبولوجي" نجد كيف تنشأ فيه علاقات ودودة وتراحمية تنتج مجموعة من القواعد والقيم والسلوكيات التي لا يحتاج اتباعها إلى إعلان أو إرشاد ولا حتى مراقبة للتأكد من اتباعها، كمقهى اللا مكان الذي لا يدخل في علاقات مع رواده إلا عبر علاقات تعاقدية وكود أخلاقي وسلوكي، المتبع فيه يتم فرضه من سلطة أعلى، لذلك لا تخلو حوائط ذلك الحيز من لافتات إرشادية وتوجيهية مثل "ممنوع التدخين"، "هنا أماكن الدخول"، "أماكن الخروج"، "ممنوع إدخال المأكولات"، وغيرها من لافتات وشاشات عرض. 

ولأنه من الصعب أن يخلق ذلك الحيز أي نوع من أشكال الانتماء، تجده لا يثق برواده، فيضعهم تحت المراقبة عبر الكاميرات التي تنتشر في كل زاوية. إن تلك المقاهي "اللا أمكنة" أثناء كل خطوة تخطوها بداخل حدودها تخبرك أنك في مكان نظيف وأنيق ومنسق، لكنه لا إنساني وبلاستيكي.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

كريم بركات
كاتب وباحث من مواليد الشرقية مهتم بالادب والسينما وعلم الاجتماع ويعمل في مجال المحاسبة وادارة الاعمال
تحميل المزيد