لم يتزوج ومات في الأربعين من عمره.. من هو الإمام النووي، وما قصته؟ (2)

عربي بوست
تم النشر: 2023/08/16 الساعة 11:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/08/16 الساعة 11:42 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية/ shutterstock


أخذ الإمام النووي (رحمه الله) الفقهَ الشافعي من كبار علماء عصره، وخلال فترة وجيزة حفظ الفقه وأتقنه، وعرف قواعده وأصوله، وفهم مُخبّآته وألغازه وبرع في معرفة أدلّته، حيث عُرف بذلك بين العامة والخاصة، ولم يمضِ وقت كبير حتّى فاق علماء عصره في حفظه للمذهب، وإتقانه لأقوال علمائه، فكان أعرفهم بعلم الخلاف، وأحقهم بأن يكون محرر المذهب، فانتشر في الآفاق ذكره، وتعلق الطلبة والعلماء بتآليفه فانتفعوا بها، وما زال الناس ينتفعون بكتبه ويُؤثرونها. يقول الأَسنوي في طبقاته: "وهو – أي النووي- محرر المذهب، ومهذّبه، ومنقّحه، ومرتّبه، سار في الآفاق ذكرُه، وعلا في العالم محلّه وقدره".

 الإمام النووي المحدِّث:

أتقن الإمامُ النووي (رحمه الله) علوم الفقه والحديث، يقول تلميذه ابن العطار: "سمع البخاريَ ومسلماً وسنن أبي داوود والترمذي، وسمع النسائي بقراءته، وموطأ الإمام مالك، ومسند الشافعي، ومسند أحمد بن حنبل، والدارمي وأبي عوانة الأسفراييني وأبي يعلى الموصلي، وسنن ابن ماجة والدار قطني والبيهقي وشرح السنة للبغوي، ومعالم التنزيل في التفسير، وكتاب الأنساب للزبير بن بكار، ورسالة القشيري وغيرها. يقول ابن العطار: "نقلت ذلك جميعَه من خطِّ الشيخ رحمه الله". 

يقول الذهبي: "وكان- أي الإمام النووي- محققاً في علمه وفنونه، مدقّقاً في علمه وشؤونه، حافظاً لحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، عارفاً بأنواعه من صحيحه وسقيمه وغريب ألفاظه واستنباط فقهه، حافظاً للمذهب وقواعده وأصوله، وأقوال الصّحابة والتابعين، واختلاف العلماء ووفاقِهم، سالكاً في ذلك طريقة السلف، قد صرف أوقاته كلها في أنواع العلم والعمل بالعلم" (الذهبي، سير أعلام النبلاء). 

 الإمام النوويُّ وعلم اللغة:

لا يقوى أحدٌ على فهم الكتاب والسّنّة والتّفقه بهما واستنباط الأحكام منهما، ويستوعب عبارات أئمة الدين من المتقدّمين بل المتأخرين، حتى يتقن العربية؛ نحوها وصرفها واشتقاقها، ومعاني مفرداتها، وهذا ما يراه النووي ويحثُّ عليه، يقول (رحمه الله) في مقدمة كتابه "تهذيب الأسماء واللغات": "ولا حاجة إلى الإطالة في الحثّ عليها، فالعلماء مجمعون على الدّعاء إليها، بل شرطوها في المفتي والإمام الأعظم والقاضي لصحّة الولايات، واتّفقوا على أنَّ تعلمها من فروض الكفايات". وكتابا النووي "تحرير التنبيه"، و"تهذيب الأسماء واللغات" يدلان على تمكّن الإمام بعلم اللغة تمكناً قلَّ نظيره في نظرائه في عصره.

قصة الإمام النووي مع دراسة الطب:

يقول الإمام النووي: "وخطر لي الاشتغال بعلم الطب، فاشتريت "القانون"، وعزمت على الاشتغال فيه، فأظلم عليَّ قلبي، وبقيت أيَّاماً لا أقدر على الاشتغال بشيء، ففكّرت في أمري من أين دخل عليّ الداخل؟ فألهمني الله أنَّ الاشتغال بالطبّ سببه، فبعْتُ في الحال الكتابَ المذكور، وأخرجت من بيتي كلَّ ما يتعلق بعلم الطب، فاستنار قلبي ورجع إليّ حالي، وعدتُّ لما كنت عليه أولاً".

زهد الإمام النووي وورعه:

كان الإمام النووي يتحلَّى بالزهد والورع والتّواضع، ويُعرِض عن جميع المتع والشهوات، ويبالغ في التقشف وشظف العيش. قال الإمام ابن كثير: "الشيخ الإمام، -أي الإمام النووي- العلامة الحافظ، الفقيه النبيل، محرر المذهب ومذهبه، وضابطه ومرتبه، أحد العباد والعلماء الزهاد، كان على جانب كبير من العلم والعمل والزهد والتقشف، والاقتصاد في العيش والصبر على خشونته، والتورع الذي لم يبلغنا عن أحد في زمانه ولا قبله بدهر طويل".

الإمام النووي الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر:

عُرف الإمام النووي بشجاعته في وجه الطواغيت والجبابرة، وفي ذلك شهادات كثيرة، قال الذهبي: وكان أمَّاراً بالمعروف نهَّاء عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم. يواجه الملوك والجبابرة بالإنكار، وإذا عجز عن المواجهة كتب الرسائل، فمما كتبه: من عبد الله يحيى النووي، سلام الله ورحمته وبركاته على المولى المحسن، ملك الأمراء بدر الدين أدام الله له الخيرات، وتولاه بالحسنات، وبلغه من خيرات الدنيا والآخرة كل آماله، وبارك له في جميع أحواله آمين، وينهى إلى العلوم الشريفة أن أهل الشام في ضيق وضعف حال بسبب قلة الأمطار وغلاء الأسعار.. وذكر فصلاً طويلاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح له… وله غير رسالة إلى الملك الظاهر في الأمر بالمعروف.  

 تصانيف الإمام النووي ومؤلفاتُه:

عاش الإمام النوويُّ (رحمه الله) ستاً وأربعين سنة، ورغم هذا فقد ترك من المؤلفات ما لو قسم على سِنيِّ حياته لكان نصيب كل يوم كرّاستين، فإذا علمنا أنّه لم يبدأ العلم إلا في سن الثامنة عشرة، فأيُّ عزيمة وقدرة وبركة في العمر آتاه الله إياه. يقول الذهبي: "وقد نفع الله تعالى الأمة بتصانيفه، وانتشرت في الأقطار، وجُلبت إلى الأمصار". وصنَّف الإمام النوويُّ كتبًا في الحديث والفقه عمَّ النفع بها، وانتشر في أقطار الأرض ذكرها؛ منها:

"المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج". 

"روضة الطالبين وعمدة المفتين" (في الفقه)، وهو من الكتب الكبيرة المعتمدة في الفقه الشافعي.

"منهاج الطالبين وعمدة المفتين" (في الفقه). 

"رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين" (في الحديث)، حيث لم يبلغ كتاب من كتب الحديث والوعظ من الانتشار والثقة ما بلغه هذا الكتاب، وشرحه العلامة محمد بن علي الصديقي الشافعي في كتاب "دليل الفالحين لطريق رياض الصالحين".

"الأذكار المنتخب من كلام سيد الأبرار"، وذكر فيه عمل اليوم والليلة، وزاد عليها أذكار المناسبات مع كثير من الأحكام المتناسبة مع الذكر.

"التّبيان في آداب حملة القرآن".

"التّحرير في ألفاظ التنبيه" لأبي إسحاق الشيرازي (في اللغة). 

"العمدة في تصحيح التنبيه".

"الإيضاح في المناسك" (في الفقه).

"إرشاد طلاب الحقائق إلى معرفة سنن خير الخلائق" (في مصطلح الحديث). 

"التقريب والتيسير في معرفة سنن البشير النذير" (في مصطلح الحديث).

"الأربعون النووية" (في الحديث).

"بستان العارفين" (في الرقائق). 

"شرح صحيح مسلم" (يعدّ أحد أشهر الكتب التي شرحت الصحيحين). 

"مناقب الشافعي".

"مختصر أسد الغابة" (في التراجم).

"الفتاوى" أو "المسائل المنثورة".

"أدب المفتي والمستفتي" مسائل تخميس الغنائم.

"مختصر التذنيب" للرافعي.

"دقائق الروضة".

"دقائق المنهاج".

"تحفة طلاب الفضائل" (في التفسير والحديث والفقه واللغة).

"الترخيص في الإكرام والقيام" (في الفقه).

"مختصر آداب الاستسقاء".

"رؤوس المسائل".

وهذه مؤلفات أتمّها، وهناك عدة مؤلفات لم يتمّها، منها:

– المجموع شرح المهذب لأبي إسحاق الشيرازي (في الفقه).

– تهذيب الأسماء واللغات (في اللغة والتراجم). 

– قطعة من شرح الوسيط لأبي حامد الغزالي.

– قطعة من شرح صحيح البخاري.

– قطعة يسيرة من شرح سنن أبي داود، منشورة باسم: الإيجاز في شرح سنن أبي داود، قطعة في الإملاء على حديث الأعمال بالنيات. 

– كتاب الأمالي (في الحديث).

– الخلاصة في أحاديث الأحكام.

– مسوّدة من طبقات الفقهاء: وقد بيّضه الحافظ المزي.

وغيرها من الكتب… 

 وفاة الإمام النووي (رحمه الله):

توفي الإمام يحيى بن شرف النووي (رحمه الله) بنوى في الرابع والعشرين من رجب، سنة ست وسبعين وستمائة من الهجرة النبوية الشريفة، وله من العمر خمس وأربعون سنة فقط، ولما بلغ نعيه إلى دمشق ارتجَّت هي وما حولها بالبكاء، وتأسَّف عليه المسلمون أسفًا شديدًا، وتوجّه قاضي القضاة عزُّ الدين محمد بن الصائغ وجماعة من أصحابه إلى نوى للصلاة عليه في قبره، رحمه الله رحمة واسعة.

قال الذهبي (رحمه الله): "… أراد أقاربه أن يبنوا عليه قبّة فرأته عمته، أو قرابة له، في النوم فقال لها: قولي لهم لا يفعلوا هذا الذي قد عزموا عليه، فإنهم كلّما بنوا شيئا تهدم عليهم. فانتبهت منزعجة، وحدثتهم، وحوّطوا على قبره حجارة ترد الدواب".

ماذا قيل في الإمام النووي؟ 

– قال الإمام الذهبي (رحمه الله): "الشيخ الإمام القدوة، الحافظ الزاهد، العابد الفقيه، المجتهد الرباني، شيخ الإسلام، حسنة الأنام". 

– ذكر السّخاوي أن شيخه الحافظ ابن حجر العسقلاني (رحمهما الله) كان شديد الأدب مع الإمام النووي حتى سمعه مراراً يقول عنه: لا أعلم نظيره في قبول مقاله عند سائر أرباب الطوائف. 

– قال ابن كثير (رحمه الله) في البداية والنهاية: "الشيخ الإمام العالم العلامة، شيخ المذهب وكبير الفقهاء في زمانه، ومن حاز قصبة السبق دون أقرانه.

– قال ابن الملقن (رحمه الله): هو الشيخ الإمام، العالم المحقق، المدقق المتقن، ذو الفنون من العلوم المتكاثرات، والتصانيف النافعة المستجادات، أحد العلماء الصالحين، وعباد الله العارفين، محيي السنّة والدين". 

– رحمَ الله الإمام تاج الدين السبكي (رحمه الله)، والذي قدم إلى دمشق لزيارة الإمام النوويّ، فوجده قد توفّي، فقصد دار الحديث، وجعل يمرّغُ وجهَه ولحيتَه في مكان جلوس النوويّ، ويقول: 

 وفي دارِ الحديثِ لطيفُ مأوى … على بُسُطٍ لها أصبو 

وآوِيْ عساني انْ أمسَّ بحرِّ وجهي … مكاناً مسَّه قدَمُ النّواويْ.

قال ابن ناصر الدين الدمشقي (رحمه الله): "الحافظ القدوة الإمام، شيخ الإسلام، صاحب التصانيف السديدة، والمؤلفات النافعة المفيدة، وكان فقيه الأمة، وعلم الأمة، وأوحد زمانه تبحُّرا في علوم جمة". 

قال عنه الإمام جلال الدين السيوطي (رحمه الله) في كتابه طبقات الحُفاظ: وَكَانَ إِمَامًا بارعاً حَافِظًا متقناً، اتقن علوماً شَتَّى وَبَارك الله فِي علمه وتصانيفه لحسن قَصده، وَكَانَ شَدِيد الْوَرع والزهد أماراً بِالْمَعْرُوفِ ناهياً عَن الْمُنكر، تهابه الْمُلُوك، تَارِكًا لجَمِيع ملاذ الدُّنْيَا وَلم يتَزَوَّج، وَولي مشيخة دَار الحَدِيث الأشرفية بعد أبي شامة (رحمهما الله)، فَلم يتَنَاوَل مِنْهَا درهماً.

وهناك أقوال لبعض المعاصرين عن الإمام النووي وعِلمه ومؤلفاته: 

قال عنه الشيخ ابن عثيمين (رحمه الله): "النووي رجل ناصح، وله قدم صدق بالإسلام ويدل على ذلك قبول مؤلفاته حتى أنّك لا تجد مسجداً من مساجد المسلمين إلا تجد فيه كتابه رياض الصالحين". 

ذكر الشيخ الدكتور عبد العزيز الطريفي (فرّج الله عنه) في كتابه حاشية مختصر جامع العلوم والحكم عن كتاب الأربعين النووية: "أشهر الكتب التي جمعت أحاديث جوامع الكلم: كتاب الأربعون في مباني الإسلام وقواعد الأحكام للإمام النووي، وكتابه هذا قُطب رحى هذا الباب، وقد اعتنى به الأئمة الكبار والطلبة الصغار حفظاً وفهماً.

أجاب مفتي السعودية الشيخ عبد العزيز آل الشيخ عن رأيه في الإمام النووي في إحدى مقابلاته المتلفزة: "الإمام النووي أحد علماء أهل السنة وأهل الفقهاء الكبار الصالحين، وشرح صحيح مسلم، وألف المهذّب، ورياض الصالحين، هو إمام عظيم وعالم جليل؛ آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر، وتحبه لحسن سيرته وأدبه مع من قبله من العلماء". 

قال فيه الأكاديمي السعودي والأستاذ في الحرم النبوي بالمدينة المنورة الشيخ علي عبد العزيز الشبل: "هناك فئة ظهرت تنتقد العلماء الراسخين الكبار أمثال الإمام النووي، وهذه الفئة أسميهم الأغمار في العلم، تعلموا كلمتين وحرفتين وصار أحدهم في ظن نفسه شيخ الإسلام، وجاءوا يتهجمون ويطعنون بالعلماء، وما هذه طريقة العلماء، فالعلماء أفادوا وما زالوا يستفيدون من كتب بعضهم، ولا ينسِفون صاحبها في اليم نسفاً".  

من الأقوال في الإمام النووي، نشرة الدكتور والأديب السوري أنس الدّغيم حول سيرته، وقوله: "النوويُّ (رحمه الله) من جِبال الأمّةِ ورجالِ المَهَمّةِ وحملَة الرسالةِ وشواهِق العِلمِ وأهلِ الحق… وهو فوق وقاحة المشكِّكين". 

ذكر الشيخ محمد براء الحنبلي: بعضُ الناسِ مشغولون بالطَّعن بالأئمَّة وبعضهم مشغولٌ بالاستفادة مِنهم فلك الحمدُ والشُّكر يا ربَّنا أن شغلتنا وأكرمتنا بدراسة ومُدارسة كتبِ عبدِك الصَّالحِ الإمامِ النَّوويِّ.

ذكر الشيخ حسن الحسيني في هذا المقام، قائلاً: "الإمام النووي (رحمه الله) لديه نفرة من علم الكلام، وموقفه الشخصي موقف رافض للبدع، وهو شيخ جليل، وحافظ محدّث، وصاحب أخلاق، وعلم نافع". 

وأخيراً، أوجه رسالتي لمن يُشكك ويشوه سيرَ الصحابة الكرام، والتابعين ذوي السبق والإحسان، ومن يُسيء للعلماء والفقهاء الأجلَّاء بقصد أو بغير قصد، أمثال الإمام الشافعي، والغزالي، وابن تيمية، والنووي، ووابن حجر، وغيرهم (رضي الله عنهم ورحمهم جميعاً) خلاصتها قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علي الصلابي
داعية ومؤرخ إسلامي
داعية ومؤرخ إسلامي متخصص في قضايا الفكر السياسي والتاريخ الإسلامي
تحميل المزيد