بعد الإعلان عن الانقلاب في النيجر سارع الرئيس النيجيري بولا تينوبو وهو الرئيس الدوري الحالي لمجموعة دول الغرب الإفريقي الاقتصادية "إيكواس" في اتخاذ قرار التهديد بالتدخل العسكري لإعادة نظيره في النيجر لسدة الحكم. بولا أحمد تينوبو عراب السياسة وصانع الملوك في النيجر، كما يسمونه منذ عقود، لم ينتظر حتى نضج الأحداث وامتلاك جميع العناصر والمعلومات التي تسمح باتخاذ مثل قرارات كهذه؛ وبذلك باتت مجموعة إيكواس مهددة حتى في مستقبلها.
قامت هذه المجموعة على فلسفة ردم الفجوة بين المحور الاستعماري السابق الفرنكوفوني والأنجلوسكسوني بين دول غرب إفريقيا وتعزيز الروابط بينها من مدخل التعاون الاقتصادي والتشابك الثقافي وتعزيز الديمقراطية والتصدي للانقلابات، وهي مهام ضخمة لم تقوَ عليها حتى الكثير من القوى الدولية، وبذلك لم تكُن الطموحات تنسجم وواقع الحياة العامة في منطقة دول الغرب الإفريقي وشهدت انتكاسات اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وأمنياً وغيرها. فشكلت حينئذ حالة من الغموض تلف حول مستقبل إيكواس، سواء ما ارتبط بوجوده مستقبلاً أو ما تعلق بأدواره المنوطة به في ظل الصراع الدولي.
وانطلاقاً من قاعدة احتمالية التدخل العسكري في النيجر والتأسيس على حالة قوة التحالف في إعادة الرئيس المنقلب عليه يبرز لدينا جملة من الأفكار في سياق تحليل الأحداث منها:
ما يدور حول الإصرار على التدخل العسكري في النيجر، يطرح سؤالاً عن طبيعة الدافع وراء التدخل العسكري، إذ جددت باريس، وفق تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الفرنسية دعمها لجهود بلدان المنطقة لاستعادة الديمقراطية في النيجر، أياً كانت طبيعة القرار، إذ ترى فرنسا أنها خطوة تسبق وتمنع تواجد أي قوى أخرى وخاصة منها الروسية.
بعيداً عن التفكير في شرعية التدخل وقدرة القوى التي تريد التدخل العسكري دون دعم أجنبي، يتضح أن هناك أطرافاً وقوى دولية تحاول أن تستثمر في هذا التوجه وأخرى تستشعر المخاطر التي تنجم عنه؛ مما يجعلنا نميل إلى الاعتقاد بأن النيجر حلقة من حلقات صراع الأطراف الدولية في ساحة منطقة الساحل الإفريقي.
فلقد بات واضحاً أن الصراع الدولي الرامي إلى تفتيت الأحادية القطبية الأمريكية يلقي بظلاله على منطقة الساحل الإفريقي الآن، إذ إنه برغم مآلات الحرب في أوكرانيا وما تم اتخاذه من تدابير عسكرية ودعم لوجستي ومالي وفرض عقوبات اقتصادية من طرف القوى الغربية المتحالفة ضد روسيا إلا أن ذلك لم يحسم المعركة منذ أكثر من عام، ولم يضع أفقاً لصراع هناك. مما زاد الضغط على الجانب الغربي والبيت الأوروبي تحديداً، في حين نجد روسيا تزداد إصراراً على كسب المعركة وفرض أهدافها.
لا شك أن منطقة الساحل هي خط رابط بين المحيط الأطلسي والبحر الأحمر، وهي حزام فاصل بين الشمال والجنوب الإفريقي، وهي منطقة هشة سياسياً يمكن نقل المعركة إليها، إذ لا تمتلك السيادة الكافية لفرض رؤاها الوطنية والإقليمية المشتركة؛ مما يجعل من اليسير فرض تنفيذ أجندات خارجية. بالإضافة إلى أنها غنية بالطاقة والموارد الاقتصادية التي يمكن أن تتعزز بها القوى الدولية المتصارعة.
بالتوازي مع ذلك، لم تفلح العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا حتى الآن، إذ لم تثمر النتائج المطلوبة. في المقابل لم يشكل الغاز الروسي أداة ضغط كافية لحسم المعركة، من هذا المنطلق يظهر لدينا الذهب واليورانيوم كمرتكز الصراع في النيجر ومنطقة الساحل. فاليورانيوم النيجري رافد من روافد الطاقة في الدول الأوروبية، وأهم مصدر دولتين مهمتين في اتحاد الشمال الأطلسي فرنسا وألمانيا. والسيطرة على مخزون اليورانيوم في النيجر من قبل روسيا ربما يضع تلك الدول في مأزق خطير وابتزاز روسي مؤثر على مسار الأحداث في أوكرانيا وغيرها.
كما أنه من جهة أخرى فإن قوات فاغنر الذراع الروسية في إفريقيا وإحدى أهم الشركات المؤمنة للقدرات الروسية تركز بشكل أساسي على مناجم الذهب في إفريقيا، فنجحت إلى حد كبير في التخفيف من العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، مما يجعل الدول الأوروبية أمام ضرورة ملحة لبتر هذه الذراع الممتدة إلى مناجم الذهب وشلّ قدراتها لتحجيم الدور الروسي في حربها ضد أوكرانيا وتمدد نفوذها.
فرنسا تدرك أن الأحداث في النيجر نقطة فاصلة في تحديد دورها في الصراع الدولي وأن خسارة النيجر التي تعد أهم قلاع مخزونها من الطاقة هو تهديد وجودي له الأثر الخطير على استقرارها؛ مما يجعلها تدفع نحو التدخل بأي ثمن، حتى وعلى حساب أي استراتيجية غربية أخرى ولا على حتى مستقبل الإيكواس في حد ذاته.
فهي تحاول بذلك التدخل أن تسبق روسيا بخطوات هناك وفرض أمر واقع جديد بدفع الإيكواس، بينما نجد إدارة بايدن تحيط مواقفها بغموض كبير وتحسب حسابات ليس على قواعد الصراع مع روسيا فقط، وإنما أيضاً تضع في حسبانها التواجد الصيني المتنامي في المنطقة.
فترى الحلول الدبلوماسية أفضل؛ لأن التدخل العسكري ربما سيدفع المجلس الانتقالي في النيجر نحو روسيا، مما قد يشكل مساحة لتحالف بين روسيا والصين هناك، مما يضعف موقفها في صراعها مع الصين بشكل عام.
إذ نشرت صحيفة Wall Street Journal الأمريكية تقريراً يلقي مزيداً من الضوء على الموقف الأمريكي من الانقلاب في النيجر، ويركز على علاقة واشنطن بأحد قادته، حيث تعتبر النيجر، الحليف الرئيسي للولايات المتحدة في القتال ضد المتشددين بغرب إفريقيا. وهنا يتضح أن الموقف الأمريكي يبدو منصبّاً على هدف رئيسي وهو ضمان استمرار وجودها العسكري في غرب إفريقيا. فهي تبحث عن مسار ثالث ومسلك آمن بين التدخل العسكري والحل السياسي والدبلوماسي لتحقق به أهدافها التي ربما تتحقق بغض النظر عن عودة بازوم إلى السلطة من عدمه.
إجمالاً، يُظهر الصراع في منطقة الساحل الإفريقي تشابكاً معقداً للاهتمامات والتداخلات الدولية، حيث تتصارع القوى العالمية والإقليمية من أجل النفوذ والمصالح، مما يشكل تحدياً كبيراً لتحقيق الاستقرار والتنمية في المنطقة.
فعلى الرغم من تراجع مستوى التأييد للتدخل العسكري، سواء من قبل الشعب أو من طرف بعض الدول الإفريقية، إلا أن قرار التدخل يظل قائماً وفقاً للرؤية التي تنتهجها فرنسا، منطلقة من خوف شديد لخسارة مصدر طاقتها. وفي الوقت نفسه، تتعامل الولايات المتحدة بشكل أكثر حذراً بسبب اعتباراتها الاستراتيجية من زيادة نفوذ روسيا والصين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.