إذا ما أردنا أن نبدأ من الآن ونعود عكسياً، فلن نجد حلاً إلا الإقرار بأن الدراسات التنويرية التي تقدم قراءة نقدية للتراث الإسلامي، لا يمكن إغفال أنها متأثرة بالدراسات الاستشراقية، بل الغريب أن هذا الأمر لم يقتصر على رواد ما سمي بالنهضة، بل استمر الأمر إلى اليوم، وهذا هو ما يحير فعلاً؛ لماذا يستمر التقليد لهذه الدراسات؟ بل الغريب أنه في بعض الأحيان يتم تبني أطروحات جاهزة للمستشرقين والاكتفاء فقط بالدفاع عنها، حتى من دون تبين مدى صوابيتها أو خطئها، فقط لأن مستشرقاً معيناً أدلى بدلوه في مسألة ما، لا يمكن تجازوه، وهذا ما جعل الدراسات المعاصرة للتراث، تقع فيما كانت تسعى لمحاربته وهو الجمود والتقليد، لا فرق بينها وبين تلك الدراسات التي تسعى ليل نهار لمحاربتها والحط من قيمتها.
لا بد من ذكر بعض الإضاءات حول الاستشراق، حتى نكون على بينة مما نتحدث عنه، معنى الاستشراق قد يكون أضحى ناراً على علم، لا يختلف اثنان في معناه ولا أهدافه، بعد الأطروحة الشهيرة التي قدمها المستشرق إدوارد سعيد، الذي درس علاقة الاستشراق بالاستعمار، وهو تطبيق لأحد النظريات التي كانت رائجة حينها، وهو دراسة علاقة السلطة بالمعرفة، ومن أشهر الباحثين في هذا الميدان المفكر الفرنسي المعروف ميشال فوكو، طبعاً الكل يقدر جهد سعيد في هذا الأمر، وإن سبقه في الحقيقة لهذا النقد أنور عبد المالك، في مقال شهير له، قبل أن يأتي بعده المفكر الفلسطيني الآخر المعروف وائل حلاق، وينتقد سعيداً أيضاً في كتابه عن نقد الاستشراق، معتبراً أنه ينبغي نقد نمط المعرفة المعاصرة، وما الاستشراق إلا أحد أوجهها، غير أن سعيداً لم يكن يهمه غير الاستشراق، لأنه كان في سياق الدفاع عن هويته التي كانت مهددة بالمحو، فأفضى به البحث إلى تبني هذه الأطروحة.
كان من الطبيعي أن يتناول سعيد، أحد أوجه الحداثة الغربية السيئة بالنقد والتحليل، لأنه كان يرى شعبه يعاني من هذه الويلات، أي الاستعمار، فهو كان يرى أن المعرفة هي التي مهدت لوجود هذه السلطة والهيمنة على البلدان المشرقية، وبذلك لم يكن أمامه من حل غير تفكيك بنية هذه المعرفة، لكنه لم يكن يستطيع التنكر لفضائل هذه الحداثة، إذ بفضلها استطاع أن يدرس ويتعلم ويصبح أستاذاً جامعياً، كيف له أن يستطيع التنكر لكل هذه المعرفة؟! سعيد وهو مسيحي لم يكن تهمه كثيراً قضية الدين، أو تقديم قراءة تأويلية له، ويشاركه في هذه النقطة أيضاً حلاق، فهو مسيحي أيضاً، ويمشي على خطى سعيد نفسها، وإن كان يتبنى أطروحة نقد الحداثة، أو إصلاحها، حسب تعبير طه عبد الرحمن.
ما يهمني هنا هو الحديث عن جانب آخر لمسألة الاستشراق، وهو الجانب الذي ينقد الدين، وربما هو الأمر الذي بدأ من أجله الاستشراق، ربما قليلون من يعرفون أن أولى الأعمال التي يمكن أن تعد ممهدة لأعمال المستشرقين، كانت ترجمة للقرآن الكريم على يد أحد الرهبان، يدعى بطرس المبجل، لتتوالى بعد ذلك الترجمات، وكلها تكون غالباً على يد رهبان، أو رجال يدرسون اللاهوت ولهم علاقة بالاستشراق، وهذا ما جعل العلاقة في البداية تأخذ بعداً دينياً، أي إن المستشرقين الأوائل كانوا مهووسين بهذا الهاجس، الذي يمكن أن نسميه الجدال الديني، وهذه الرؤية الدينية التي تحكم خلفية الاستشراق لن تتغير للأسف.
معلوم أن هذه الأعمال كلها كانت ترى أن القرآن هو من اختلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، وحاشاه ذلك، وللأسف هذا الأمر وإن كان يظهر في شكل باهت اليوم، إلا أنه ما زال حاضراً، أي إنهم جميعهم تقريباً دون استثناء، عند قراءتهم لتجربة الوحي، فإنهم لا يقرون بها، بل يعطونها تفسيراً مادياً. سيختلف هذا الأمر عن الأوائل الذين كانوا يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نقل عن أهل الكتاب، وبين المتأخرين منهم، الذين يرون أن ذلك يعود لحالة نفسية، لكن كلهم يجمعون على أن القرآن ليس بوحي، طبعاً قليلون من يفهمون سبب هذا التشبث وهذا الإصرار، وهذا هو ما ولد الرغبة في كتابة هذه المقالة.
للأسف الإشارة أعلاه، يمكن تأكيدها، سواء من خلال الاطلاع على السير العلمية للمستشرقين، أم من خلال قراءة أعمال بعضهم بعناية، فبالإضافة للعلاقة التاريخية التي ظهر فيها مفهوم الاستشراق، فإن تكوين هؤلاء لم يكن يقودهم إلا إلى ذلك، وأقصد أنهم كانوا يدرسون الكتاب المقدس، وبالتالي فالأدبيات التي كانت تحكمهم في تعاملهم مع القرآن، هي أدبيات الكتاب المقدس، ففي البداية كانوا محكومين بالتحمس للكتاب المقدس، والاعتقاد بأنه هو الأصل، وللإشارة فالقرآن لا ينكر ذلك، بل يقول إنه أتى مصححاً، وهذا ما يتجاهله المستشرقون، وبين تبني أدبيات لما سيصبح يسمى بدراسة الكتاب المقدس، وذلك بعد ظهور مناهج جديدة في التعامل مع الكتاب المقدس، وقراءته في سياقه التاريخي.
كان للقراءات النقدية التي وجهت للكتاب المقدس الأثر البالغ على أتباعه، كما أن ذلك أسس لمرحلة جديدة في دراسة كل الأديان المشرقية القديمة، باستعمال بعض المناهج التي ستصبح تنتمي للعلوم الإنسانية، غير أنه هنا لا بد من التفريق بين دراسة الأديان وبين الاستشراق، حيث إن هذا الأخير كان يروم دراسة النصوص، ولا يهتم كثيراً بتجارب الأفراد، بل تكلف بذلك علم الاجتماع الديني. والمستشرقون كل ما كان يهمهم هو دراسة النصوص، غير أنهم للأسف لم يستطيعوا التخلص من الخلفية المسيحية التي كانت تحكمهم، وربما هذا الذي قادهم إلى استنتاجات غريبة فيما يخص الدين الإسلامي.
السؤال المحير هو: لم ما زلنا عالة على الدراسة الاستشراقية، في دراساتنا التي ندعي أننا نقدم فيها قراءات جديدة للتراث؟ أين الخلل يا ترى؟ فإن كان ذلك الأمر مبرراً للمستشرقين، لمَ لا يزال مفكرونا عاجزين عن ابتكار مناهج خاصة بهم، تراعي وتتوافق مع التجربة الحضارية للمسلمين؟ لمَ كلما أراد شخص ما أن يدعي أنه يقوم بقراءة نقدية للتراث، ينصرف إلى سوق الاستشراق، يتبضع ويعود وكأنه أنجز ما لم يستطع غيره القيام به؟ وما هو إلا مروج لبضاعة كاسدة!! كم هي تلك القراءات القاصرة التي يقوم بها هؤلاء، إما لضعفهم في قراءة اللغة، أو جهلهم بالثقافة الإسلامية، أو صعوبة استيعابهم للتجربة الدينية الإسلامية؟! غير أننا نقف عاجزين، ونسلم لهم بكل ذلك، تحت ذريعة أن دراساتهم علمية، ومن يطلع عليها ويتمعن فيها، يجدها لا تمت للعلم بصلة.
هل نحن عاجزون أيضاً عن استيعاب تراثنا، وبالتالي التعامل معه، وإبرازه للآخر على أنه قدم تجربة حضارية منقطعة النظير؟ أم ترانا نظل نردد ما يمليه الآخرون، كما أسلفت؟ ما سمي بالصدمة الحضارية للمسلمين امتد أثرها لوقت طويل، غير أن أثر هذه الصدمة بدأ يزول الآن، حيث إنه بدأ في البروز جيل من الشباب في الجامعات العربية، والإسلامية، صحيح أنهم لم يصيروا نجوماً بعد، غير أنهم يحاولون تقديم قراءة بديلة، على قلتهم وقلة الدعم المخصص لهذا الأمر، إلا أن أمثال هذه المشاريع هي التي ينبغي أن تولى العناية والأهمية اللازمتين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.