"لا أدري، المهم أنه حاول، فقيمة الإنسان لا تقدَّر فقط بما فعله، بل أيضاً بما حاول أن يفعله".
بدأت الرواية بالعثور على رُفات 7 أشخاص مدفونين في مقبرة جماعية من مخلفات حرب البلقان في منطقة لوتا بالبوسنة، حيث وجدت الشرطة مع الرفات حقيبة جلدية من نوعية ممتازة بها مذكرات على أوراق بيضاء باللغة العربية ربما تعود لأحد الضحايا، وقصاصات جرائد وكراسة مذكرات باللغة الفرنسية، وساعة متوقفة في ساعة الصفر. رمَّم الدكتور وحيد، المتخصص في التاريخ، المذكرات التي تعرضت للقليل من التلف لقراءتها وفك شيفرة صاحبها.
صاحب الحقيبة كما أظهرت المذكرات باللغة العربية طبيب فرنسي متطوع مع بعثة الأمم المتحدة في البلقان أثناء الحرب الأهلية التي عانت منها مطلع تسعينيات القرن الماضي، نبدأ معه رحلتين: الأولى في حاضره بالبوسنة، والثانية في ماضيه المعقّد، كانت مهمة الطبيب معاينة أعداد القتلى والجرحى وإعداد تقرير مفصل للأمم المتحدة، في أول أيامه خرج دون إذن العقيد الذي يشرف على حمايته، يشاهد الطبيب قصف العُزّل والأطفال دون رحمة، فيقرر الانفصال عن بعثة الأمم المتحدة والعمل على إسعاف الجرحى وإنقاذهم، فهو طبيب عمله إنقاذ الجرحى وليس إحصاء أعدادهم.
أما الحكاية الثانية فهي عن مذكرات بيريجيت نوسي والدة الطبيب، وقد كُتبت باللغة الفرنسية، بيريجيت فرنسية أباً عن جد، ولدت وترعرعت في وهران بالجزائر، وارتباطها بهذه المدينة منعها من مغادرتها رغم قيام ثورة الجزائريين لتحرير أرضهم من احتلال فرنسا، تعقدت الأمور في الجزائر لتجد الشابة الصغيرة نفسها مضطرة لترك مدينتها التي تحبها، لتبدأ حياة جديدة في مرسيليا مع كنز الأب فرانسوا، وهو عبارة عن مجموعة من الكتب الدينية الكاثوليكية بعضها باللغة العربية، تلتقي بيريجيت في ميناء مرسيليا بأحمد مغربي مهاجر للعمل في فرنسا لإعالة عائلته، فتنشأ علاقة حب قوية بينهما، حيث ساعدته على تحسين أوضاعه القانونية في فرنسا والحصول على وظيفة محترمة في الميناء. رغم كره بيرجيت للأعراب الجزائريين والمهاجرين عامة وتغطرسها وتعجرفها فقد أحبت أحمد لاختلافه عن أبناء قومه في رأيها، بعد مدة تصبح بيريجيت حاملاً، وكانت سعادتها لا توصف بالحدث، لكن ثورة أحمد وغضبه بعد معرفته بالأمر وتنكره لها غير حياتهما معاً إلى الأبد.
بعد وفاة والدته ينصدم الطبيب الفرنسي بحقيقة أن أصوله مغربية، فدخل في دوامة السؤال المؤرق: "من أنا؟". سافر إلى المغرب وبحث حتى عرف مصير والده أحمد وعرف جذوره وأصوله، لكن هل شعر الطبيب المجهول بالراحة أخيراً؟ أم أن جراحه أصبحت أكثر عمقاً وازداد غرقاً في التيه؟ يعود الطبيب الفرنسي إلى واقعه في سراييفو أميرة البلقان، تنتشله من ذكرياته وأوراقه أصوات القذائف والدمار من حوله، فهو بلا مأوى بعد تخليه عن البعثة الأممية واختياره مواجهة الموت والقيام بواجبه المهني تجاه ضحايا هذه الحرب التي مزقت البوسنة إلى أشلاء متناثرة هنا وهناك، وجعلت سراييفو تحت حصار يموت سكانها من البرد والجوع قبل رصاصة غادرة أو شظية طائشة. بعد مدة وجد الطبيب نفسه مسؤول عن نور، طفلة يتيمة، والدها محاصر في مدينة "موستار"، فنبدأ معه رحلة محفوفة بالمخاطر للبحث عن والدها، فهل سيتمكن الطبيب من جمع شمل نور بوالدها؟
رواية ساعة الصفر عبارة عن رحلة ممتعة ومتميزة في الزمان والمكان بين الماضي والحاضر في وهران ومرسيليا والرباط وصحراء المغرب وعين اللوح في جبال الأطلس بالمغرب، ثم بين مدن البوسنة الممزقة بدءاً من سراييفو حتى موستان. سلاسة انتقال الكاتب بين أزمنة وأمكنة مختلفة والربط بينها كان مميزاً جداً دلّ على الجهد المبذول في حبكة الرواية، أما تفاعل القارئ مع شخصية الطبيب الذي بقي مجهولاً حتى النهاية دليل على أن بناء شخصية البطل كان موفقاً جداً، والمميز أكثر هو الوصف الدقيق لشوارع سراييفو ومناطق البوسنة، والذي يجعلك تظن أن الكاتب عاش هناك فترة من الزمن وعايش أهوال الحرب وويلاتها بنفسه.
أثار الكاتب عدة قضايا عن الحب والحرب والدين والتضحية والتّيه والانتقام والأمل من خلال شخوص وأمكنة الرواية. ففي وهران بيرجيت، الفتاة الفرنسية التي ولدت في وهران وكرهها للعرب المسلمين ووصفها لهم بأنهم مجرد متخلفين دمروا المدينة وحضارتها بجهلهم وطردوا أسيادهم الفرنسيين منها. وفي مرسيليا أحمد، حكاية المهاجر المغربي الذي استغل بيريجيت لمصالحه الخاصة، هي قصة مئات المهاجرين مثله، وجدوا أنفسهم في مجتمع يختلف جذرياً عن مجتمعاتهم المحافظة، وصحراء المغرب في سجن الانفصاليين عن المغرب ثم في البوسنة تحت وطأة حرب أهلية مزقت البلد البلقاني الجميل بين بوشناق مسلمين وكروات وصرب، وفضائح هيئات جمعوية وأممية في المتاجرة بالأطفال ضحايا الحرب البوسنية، وبيعهم في أوروبا وأمريكا.
ويبقى السؤال الأهم الذي نسج خيوط الرواية هو "من أنا؟"، وإشكالية البحث عن الذات التي ظهرت جلية في شخصية الطبيب الفرنسي المجهول، وحنكة الكاتب في جمع كل خيوط الرواية بحرفية من خلاله، ومن منا لا يبحث عن نفسه، حتى من يدعي أنه يعرف نفسه أشد المعرفة قد يتفاجأ أنه غريب عنها، الطبيب المجهول عرف أصوله ووالديه وماضيه، لكن هل حُلت معضلة البحث عن الذات لديه؟ ربما ازدادت الهوة بينه وبين نفسه اتساعاً، وبقيت أسئلة معنى الحياة والموت والدين والغاية والمصير بعد الموت عالقة لم يجرؤ أن يخوض فيها بعمق، كلها أسئلة بقيت مفتوحة عند الطبيب المجهول، والكثير منا أيضاً يعيش دون بوصلة، يمر على الأسئلة الكبرى في حياته دون توقف، وعند الموت يدرك أنه قد فات الأوان لتدارك الغاية من حياته، قد يكون الجواب واضحاً وبسيطاً، لكن رغبة الإنسان في الركض وراء ملذاته وخوفه على تفويتها يجعله يستهلك حياته في معارك لا طائل منها.
حجم الحزن والضياع بين الماضي المؤلم والحاضر المخيف والمستقبل المجهول للطبيب الفرنسي وكل أهل البوسنة يجعل القارئ يتأثر ويتفاعل مع شخوص الرواية، لدرجة الشعور بالخوف على مصير أهل البوسنة الممزقين، خاصة الطفلة نور، ومخاطرة الطبيب بنفسه لإنقاذ الطفلة وجمع شملها بوالدها علمتني أن العطاء هو غاية الأخذ، فقد يبدو لوهلة أن الطبيب يُساعد الطفلة، لكن في الحقيقة الطفلة نور هي من ساعدت البطل المجهول ومنحت معنى ورسالة لحياته.
لي بعض الملاحظات على بعض مقاطع الرواية، لكن هذا لا ينفي إبداع الكاتب الجلي في هذا العمل المميز، والذي يبشر بأنه لا يزال في جعبته الكثير ليتقاسمه مع القراء، وهو ما بدا جلياً في عمله الأخير "الملف 42″، الذي رشح في القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر"، حيث أثبتت الروايتان أن وصول الكاتب لهذه المرتبة لم يكن مجرد ضربة حظ، بل إبداع من كاتب شاب يسير بثبات ليسطر اسمه في قائمة الكتاب المبدعين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.