يعرض الآن بدور العرض السينمائي فيلم "أوبنهايمر"، الذي تدور أحداثه حول الشخصية الحقيقية المشهورة التي قادت المجهود العلمي والبحثي في إنتاج القنبلة الذرية الأولى في العالم، الفيلم مبني جزئياً على كتاب السيرة الذاتية "برومثيوس الأمريكي.. انتصار ومأساة ج. روبرت أوبنهايمر" بقلم الكاتب كاي بيرد.
نجح المخرج وكاتب السيناريو كريستوفر نولان في أن يكون هو البطل الأكبر للفيلم، إذ نقل العقد الدرامية العديدة إلى الشاشة بأسلوب مبتكر ومعقد معاً، بالتزامن مع الموسيقى التصويرية البازغة للملحن السويدي لودفيج جورانسون، وبالطبع لا يجب أن ننسى تلك الخلطة من مونتاج متقدم واستخدام كاميرات السينما IMAX، وللعلم هي تقنية لا تستخدم في السينما التجارية، إلا في الأفلام العلمية أو الدهشة الجغرافية.
يحاول الفيلم تبسيط الحقائق العلمية حول الفيزياء الكمية، وتفسير الكون والطبيعة، ومشاكل النظرية النسبية والطاقة التي خلقتها نظريات ألبرت أينشتاين. من ثم يتحول السيناريو بضمير أنا المخاطب إلى رؤية شاملة لعلاقات العالم "يوليوس روبرت أوبنهايمر"، (اليهودي من أصل ألماني والمهاجر، مواليد نيويورك 1904)، مع علماء عصره الألمان والبريطانيين والدنماركيين والأمريكيين، وكيف أنه أدخل الفيزياء الكمية إلى جامعتيْ بيركلي وكالتك بأمريكا بعد رسالة دكتوراه نالها من جامعة جوتنجن بألمانيا، وفترة دراسة البكالوريوس بجامعة كمبريدج البريطانية.
يوضح الفيلم أن أوبنهايمر لم يكن معزولاً اجتماعياً عن أفكار وأزمات عصره، من الكساد الكبير وبزوغ الأفكار الماركسية، إذ كان داعماً لأنشطة الحزب الشيوعي الأمريكي، كان على علم بأن أخاه "فرانك" عضوٌ نشط فيه، ومسؤول عن خلية الحزب في "معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا"، بينما تعاطف مع الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية، ومال نحو سياسات الرئيس الديمقراطي روزفلت المعروفة (الصفقة الجديدة New Deal)، في مقابل كراهيته السياسية العميقة للفاشية وتعاطفه المبرر مع ضحايا المحرقة النازية. بالإضافة لذلك، تعبيره عن آرائه السياسية والاجتماعية بكل جرأة وشجاعة، جعلته يصطدم بالآلة السياسية في الولايات المتحدة، خاصة مقابل مشروعه في خلق نقابة عامة تجمع الأكاديميين والعلميين والمهندسين والفنيين.
عقدة الفيلم الكبرى تكمن في التنافس بين أدميرال لويس شتراوس (ضابط بحرية يترأس معهد أبحاث الذرة، وأيضاً من أصل يهودي ومن ولاية نيويورك)، وبين أوبنهايمر على الصدارة والشهرة ومحاولة تملك المشروع السياسي الناتج من الاختراق العلمي للذرة، وكيف أنه حتى في ظروف حرب عالمية، وظرف سياسي معقد وبالغ الخطورة، يحمل شتراوس ثأراً شخصياً ضد أوبنهايمر، ساعياً لتدمير سمعته وتقليص نفوذه السياسي، لإنجاح طموحه الشخصي في الوصول لكرسي وزير التجارة بحكومة فرانكلين روزفلت الثانية.
إذ نرى الأدميرال لويس شتراوس، يستخدم زملاءه في السلاح ليبلغ عن زميله أوبنهايمر في ذروة ما عرف بالحقبة المكارثية (نسبة إلى السيناتور جوزيف مكارثي) ضد اليساريين في دولاب العمل الحكومي الأمريكي، وفي مختلف الفنون حتى السينما. فيشتعل السيناريو بمحاولة الاقتراب من وجهات نظر متباينة عن الوطنية والولاء المؤسسي والوطني، وشرعية العداء أو إقصاء مواطنين بسبب قناعاتهم السياسية أو خلفياتهم الاجتماعية، أو حتى نقائصهم الشخصية.
الفيلم يسلك الخيط الدقيق بين توضيح مخاطر التجسس العملية من عملاء سوفييت أو عملاء ألمان، ويضمن معلومة أن عالماً ألمانياً يهودياً (كلوس فوكس) طرد من ألمانيا ولجأ لبريطانيا ثم ضمه أوبنهايمر لفريقه، ثم يتضح أنه جاسوس سوفييتي رغم إجراءات التأمين والسرية الشديدة لبرنامج إطلاق القنبلة الذرية الأمريكية، عالم ألماني آخر رغم يهوديته عمل لصالح النازيين في محاولة إنتاج قنبلة ذرية (فيرنر هايزنبرج). وتلك الحالة الملتبسة والمرتبكة للإنسانية نفسها، ليست فقط للعلماء الألمان ولكنها حالة إنسانية عامة حال الأزمات الكبرى والحروب العظيمة، تتضح عندما تتردد الشخوص وتتوزع الولاءات بحسب الميول الشخصية والقناعات الأيديولوجية والدينية، وتأثير الخلفيات الإثنية والثقافية في تلك الظروف.
هذا الفهم العميق والنادر، ما كان ليتضح إلا من خلال نافذة المخرج وكاتب السيناريو البريطاني كريستوفر نولان، وكاتب الكتاب الأصلي كاي بيرد الذي عاش طفولته وشبابه بين القاهرة وبيروت وإسلام أباد ونيودلهي وعدد من العواصم الأخرى! حتى طاقم العمل المختلط بين عدة جنسيات أوروبية يعكس تلك الحالة من الرؤية من زاوية "عين الصقر" من عنان السماء لرؤية مستقبل البشرية ومشاكلها من زاوية محض إنسانية وبشرية.
ويتطرق الفيلم طوال عرضه على نفسية أوبنهايمر المضطربة، وحيرته بين العلم كأداة فتاكة وبين سطوة الأخلاق والضمير، إذ يواجه أوبنهايمر ضميره الذي استيقظ بعد إلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي في أغسطس 1945، فيرى نفسه قد أهدى الحكام والعسكريين سلاحاً قد يفني البشرية! وهنا يسلط المخرج نولان الكاميرات إلى جلسة الاستماع الأمنية لأوبنهايمر عام 1954، التي يغلب عليها الطابع الشخصي، والتي أعدها الأدميرال لويس شتراوس، فشرحت ضمنياً محاولات أوبنهايمر منع الولايات المتحدة من إطلاق العنان للقنبلة الهيدروجينية التي توصل إلى فكرتها أحد علماء مشروعه.
يرسم الفيلم مشهد مقابلة أوبنهايمر مع الرئيس الأمريكي هاري ترومان، فيوضح عدم رضاه عن إلقاء القنبلة على ناغازاكي بقوله: "سيدي الرئيس.. أشعر بأن الدماء تلطخ يدي"، ليحثه بعد ذلك هو وإدارته ليتعاونوا مع الاتحاد السوفييتي بشأن السلاح النووي، إذ كانت تكمن مخاوف أوبنهايمر في سيطرة طرف واحد على هذا السلاح الفتاك، لذلك كان يحاول أن يدعو لعدم احتكار أمريكا أو أية دولة أخرى للسلاح النووي، وطرح التعاون، بدلاً من مسار سباق التسلح الذي سارت إليه الوقائع، وأدى إلى إنتاج مزيد من القنابل الذرية والهيدروجينية الأكثر فتكاً من الأولى بآلاف المرات.
ينتهي الفيلم بجملة قالها أوبنهايمر لأينشتاين، عندما حذّر الأخير صديقة/تلميذه من إحراق العالم، فيرد أوبنهايمر أنه ربما قد زوّد العالم بما يحتاجه ليحرق نفسه منهياً الحياة على الكوكب، في حلم/كابوس تخيلي، باشتعال كبير بمثل ما تنفجر به الكواكب والنجوم.
يذكرني الفيلم بروايتي الأخيرة "مقهي براديسو"؛ إذ استخدم الأسطورة اليونانية "بروميثيوس"، وهي تروي قصة عملاق أسطوري انتصر لصف آلهة جبل "أولمب"، فكرّمه "زيوس" كبير الآلهة قبل أن ينقلب عليه لأنه سرق النار من جبل الآلهة، وأعطى قبساً منها للبشر. وهنا التشبيه بأوبنهايمر الذي تحمل مثل "بروميثيوس" عن البشرية غضب الآلهة لاكتشافه النار، وهو أيضاً ما يتقارب مع روايتي التي أناقش فيها الأثر المدمر المحتمل لحرب نووية على الكوكب، والذي قد يودي بالحياة تماماً عن سطح الكوكب.
نحن أمام فيلم متكامل، عناصر جذب فنية من مشاهد خلابة المناظر، لقطات بديعة للحقبة الزمنية بالجامعات ومراكز الأبحاث. ثم يضاف إلى ذلك تتابع مشاهد تفجير أول قنبلة ذرية بحبكة معتبرة لزيادة الإثارة وتمرير الرعب للمشاهدين، ثم لقطات مبدعة بين الاحتفال بالنجاح بإنتاج القنبلة الذرية والأثر المدمر الذي تتركه على الأبرياء حتى لو كانوا من مواطني الأعداء. السيناريو يظل هو البطل الأول لتلامسه مع كل القضايا العميقة لزمننا ولزمن الفيلم في أثناء الحرب العالمية الثانية، أو استقطابات ما قبلها، وصولاً إلى سخونة الطريق إلى الحرب الباردة في بداياتها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.