يعيش العالم في عصرٍ تتوالى فيه الأزمات الاقتصادية والبيئية، تاركةً خلفها تحديات متعددة تستدعي إبداعاً وحلولاً مستدامة. في سياق تلك الزخم المتلاحق للمشكلات، تبرز الطاقة كمحور أساسي يرتبط بتحقيق التنمية المستدامة واستقرار الاقتصاد. وفي ضوء الضغوط المتنامية المفروضة على البلدان للتعافي من أزماتها، يثير تساؤلٌ مهم: هل تكون البلدان التي تمتلك مصادر طاقة متجددة قادرة على تحقيق تعافٍ اقتصاديٍ أسرع وأكثر استدامة؟
إن الضغوط المتزايدة التي يواجهها العالم اليوم للتخفيف من تداعيات الأزمات الاقتصادية والتحديات البيئية، تضفي على دور الطاقة المتجددة أبعاداً استراتيجية ومهمة. يعزز اعتماد مصادر الطاقة المتجددة فرص تحقيق نمو اقتصادي مستدام، من خلال توفير فرص عمل جديدة وتنمية صناعات متنوعة إضافة الى تقليل الانبعاثات المضرة بالكوكب، إلى جانب تقليل اعتماد البلدان على مصادر الطاقة التقليدية والمحدودة. هذا التحول نحو الطاقة المتجددة يمثل تحدياً مبهراً يمتد إلى جميع جوانب الاقتصاد والبنية التحتية وأنماط الاستهلاك، ما يشير إلى أهمية تحقيق التوازن بين احتياجات النمو الاقتصادي وحماية البيئة عن طريق استخدام الطاقة المتجددة.
ما دور الطاقة المتجددة في تعزيز تعافي الاقتصاد؟
تشكل الأزمات الاقتصادية التحدي الذي يعصف بقواعد النمو والاستقرار، حيث تتطلب جهوداً مشددة لاستعادة الانتعاش والاستمرارية. في هذا السياق، تنفرد الطاقة المتجددة بأدوارٍ استراتيجية تسهم في تعزيز تعافي الاقتصادات المتضررة؛ إذ تمثل هذه الطاقة الخضراء محوراً مهماً يلبي حاجات البلدان لتوفير وتوزيع الطاقة بطرقٍ فعالة ومستدامة، وتساهم بأدوار مهمة اقتصادية مثل:
- توفير فرص عمل وتحفيز النمو الاقتصادي:
تفتح الطاقة المتجددة آفاقاً جديدة للنمو والازدهار؛ إذ تشجّع مشاريع الطاقة المتجددة على إنشاء وظائف محلية في قطاعات مبتكرة متعددة مثل الهندسة والتصنيع والصيانة. وبالإضافة إلى ذلك، تتيح تلك المشاريع فرص تدريب وتطوير للقوى العاملة، مما يؤدي إلى تعزيز مستويات المهارات ورفع القدرات التنافسية للعاملين وبالتالي تعزيز النمو الاقتصادي.
- تعزيز الاستدامة والتخفيف من التلوث:
تتميز الطاقة المتجددة بأنها تنبثق من مصادر طبيعية تجدد بشكل مستمر، مثل الشمس والرياح والماء. هذا التميّز يتيح الفرصة للبلدان للحد من اعتمادها على الوقود الأحفوري، وبالتالي تقليل انبعاثات الغازات الدفيئة والتلوث البيئي. بالإضافة إلى ذلك، تعزز استخدام الطاقة المتجددة من مستويات الاستدامة البيئية وتحافظ على الثروات الطبيعية للأجيال القادمة.
- تنويع مصادر الطاقة وتحسين الأمان الاقتصادي:
تعتمد الكثير من البلدان على واردات الوقود الأحفوري، مما يعرّضها للتقلبات في أسعار السوق العالمية. بدلأ من ذلك، توفر الطاقة المتجددة فرصة لتنويع مصادر الطاقة المحلية والتقليل من الاعتماد على الواردات. هذا التحول يعزز من أمن الطاقة ويحمي البلدان من التأثيرات الاقتصادية السلبية المترتبة على ارتفاع أسعار النفط والغاز.
- تعزيز الابتكار وتطوير التكنولوجيا:
تطلب تحولات الطاقة المتجددة تطوير تقنيات وتكنولوجيات جديدة، مما يدفع بعض الحكومات للاستثمار في مشاريع الابتكار والبحث والتطوير لتهيئة البنية التحتية لاستقبال مصادر الطاقة المتجددة. وبالتالي تسهم هذه العمليات في نشر المعرفة العلمية وتعزز من تطوير قطاعات التكنولوجيا الوطنية، مما ينعكس إيجابياً على التنافسية الاقتصادية للبلدان مستقبلاً.
أجرى باحثون من كلية ترينيتي في دبلن دراسة بهدف تحليل أنماط البيانات المتعلقة بـ 133 أزمة اقتصادية نظامية شهدتها 98 دولة على مدى فترة تزيد عن 40 عاماً. وخلال تلك الدراسة، توصلوا إلى نتائج مهمة تفيد بأن الدول التي تعتمد على مجموعة متنوعة من مصادر الطاقة تمتلك قدرة أكبر على التعافي من الأزمات الاقتصادية، حيث تستغرق وقتاً أقل لاستعادة استقرارها الاقتصادي.
ومن خلال التحليلات المجراة، تبَّين أنَّ الدول التي اعتمدت على مصادر طاقة متجددة كانت لديها أفضل أداء فيما يتعلق بعملية التعافي الاقتصادي بعد تجاوزها للأزمات الاقتصادية. وعلى هذا الأساس، اتخذت الحكومة الأيرلندية قراراً بالعمل نحو دمج مصادر الطاقة المتجددة بشكل أكبر في سلسلة إمداد الطاقة. وتهدف إلى تحقيق هدفٍ طموح يتمثل في توليد 80٪ من احتياجاتها من الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة بحلول العام 2030، وذلك بهدف تحقيق استدامة أفضل للبيئة وتعزيز الاستقرار الاقتصادي على المدى البعيد.
إن التأكيد على أهمية هذه النتيجة يستند إلى حقيقة واضحة؛ حيث جمعت البيانات من مجموعة واسعة ومتنوعة من المجتمعات والاقتصادات. وبالفعل، يظهر بشكل دائم أن مدى الاعتماد على الطاقة المتجددة يشكل نسبة مهمة من التباين في فترات تعافي الاقتصاد.
إن النتائج المستخرجة من هذا البحث تسلط الضوء على أهمية الرابط الأساسي بين الموارد الطبيعية المقدمة من النظم البيئية واستقرار الاقتصادات التي تعتمد عليها. وهذه النتائج تشير في النهاية إلى ضرورة إعادة تقييم جذري لسياسات الطاقة على الصعيدين الوطني والدولي، وذلك للمساهمة في الحفاظ على بيئتنا وتعزيز استقرار واستدامة اقتصاداتنا.
دول نجحت في دمج الطاقة المتجددة مع اقتصاداتها
وقد نجحت العديد من الدول في دمج الطاقة المتجددة في خططها الاقتصادية وحققت نتائج ملحوظة ومنها:
السويد: وصلت السويد إلى هدفها من 50% من الطاقة المتجددة في عام 2012، وهو ما يقدمها بـ8 سنوات عن الجدول الزمني المحدد. وقد حققت ذلك عن طريق الاستفادة من مواردها الطبيعية واستخدام مزيج من الطاقة الكهرومائية والطاقة الحيوية.
كوستاريكا: أنتجت كوستاريكا 98% من كهربائها من مصادر متجددة لأكثر من 7 سنوات متتالية؛ إذ تستخدم كوستاريكا مزيجاً من الطاقة الكهرومائية، الجيوحرارية، والرياح، والكتلة الحيوية والطاقة الشمسية .
أيسلندا: توفر مزيجاً من الطاقة الكهرومائية والطاقة الجيوحرارية تقريباً 100% من احتياجات أيسلندا من الكهرباء. في الواقع، تسخن الطاقة الجيوحرارية 9 من كل 10 منازل؛ حيث أشارت الأمم المتحدة إلى أن التحول الذي قامت به أيسلندا يمكن أن يوفر نموذجاً للدول الأخرى للقيام بالتحول.
ألمانيا: وضعت الحكومة الجديدة في ألمانيا الطاقة المتجددة في مركز خطتها الإصلاحية للطاقة، والتي تصفها بأنها "أكبر إصلاح لسياسة الطاقة في عقود". وقد حددت أهدافاً لتحقيق 80% من الطاقة المتجددة بحلول عام 2030، وقرب 100% بحلول عام 2035.
الصين: على الرغم من كونها أكبر منتج للكربون في العالم، تعد الصين الرائدة العالمية في إنتاج الطاقة الرياح والطاقة الشمسية، إذ تهدف إلى توليد ثلث طاقتها من مصادر متجددة بحلول عام 2025 .
إن عملية دمج الطاقة المتجددة سينعكس بكل تأكيد بشكل إيجابي على اقتصادات هذه الدول وبشكل واضح وصريح، وفي الحقيقة إن التوجه العالمي نحو الطاقة المتجددة أصبح ملحوظاً وواقعياً خصوصاً في فترة المشاكل البيئية التي نواجهها مثل ارتفاع درجات الحرارة بشكل كبير أو الانبعاثات الكربونية المتزايدة.
امتلاك الدول لمصادر طاقة متجددة يشكل نقطة قوة استراتيجية تمتلك القدرة على تعجيل عمليات التعافي الاقتصادي. على سبيل المثال، الدول التي تعتمد أساساً على مصادر الطاقة التقليدية ستظل عُرضة لتقلبات أسعار الوقود وتداعيات التلوث البيئي، مما يمكن أن يؤثر على الاقتصاد بشكل مباشر وغير مباشر. في المقابل، تستطيع البلدان التي تتجه نحو استخدام الطاقة المتجددة أن تستفيد من فوائد تلك المصادر في تقليل المخاطر الاقتصادية وتقلبات أسواق الطاقة.
فعلى سبيل المثال، باستخدام مصادر الطاقة المتجددة، يمكن للدول تجنب التبعات السلبية لتقلبات أسعار النفط العالمية، مما يساهم في تحقيق استقرار أفضل للميزانية الوطنية والاقتصاد بشكل عام. بالإضافة إلى ذلك، تساعد مصادر الطاقة المتجددة في تقليل انبعاثات الغازات الدفيئة والتلوث، مما يعزز من جودة البيئة والصحة العامة، وبالتالي يخدم الاقتصاد من خلال تقليل التكاليف الناتجة عن المشاكل البيئية. بالتالي، يُمكن للدول التي تدفع نحو تبني مصادر طاقة متجددة أن تخطو نحو اقتصاد أكثر أمنية واستدامة؛ إذ تقدم لها تلك المصادر فرصاً للحد من الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية والتحكم في تقلبات الأسواق، وفي الوقت نفسه تحسن من جودة الحياة وتقليل الأثر البيئي، مما يشكل أساساً قوياً للنمو الاقتصادي المستدام.
خلاصة القول إن البلدان التي تمتلك مصادر طاقة متجددة تمتلك أدوات قوية لتحقيق تعافٍ اقتصادي أسرع وأكثر استدامة. فالاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة لا يمتد فقط إلى تقليل انبعاثات الكربون وحماية البيئة، بل يمتد أيضاً إلى تعزيز الابتكار وتوفير فرص عمل جديدة. من خلال تطوير قطاعات الطاقة المتجددة، يمكنها تعزيز استقلاليتها من الطاقة وتحقيق استقرار اقتصادي يكون خط مناعي في مواجهة التحديات الاقتصادية المستقبلية. بالتالي، يعد اتخاذ خطوات نحو تعزيز استخدام الطاقة المتجددة استثماراً ذكياً يعود بالنفع على الصعيدين البيئي والاقتصادي، ويساهم بشكل كبير في تعزيز قدرة البلدان على التعافي من الأزمات الاقتصادية بسرعة وقوة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.