أظهرت الأيام الثلاثة الأخيرة حجم الاحتقان الداخلي اللبناني وانعكاس أوضاعه السياسية والاقتصادية المتردية على الأوضاع الأمنية وتدهورها. ففي كل حالة اصطدام بين الفرقاء والأحزاب السياسية يتم الحديث عن مقدمات عودة الحرب الأهلية إلى الأراضي اللبنانية من بوابة الانفلات الأمني وفوضى السلاح وكل مكون سياسي في لبنان يسعى إلى خلق كانتونات جغرافية يسيطر عليها ويديرها من الناحية الأمنية.
لا تعتبر حادثة الكحالة، أو ما يعرف بشاحنة الأسلحة التابعة لحزب الله، الحادثة الأولى التي تدل على الانفلات الأمني في لبنان، فهذه الحادثة هي امتداد لحادثة الطيونة، وهي مؤشر على اتجاه البلاد إلى مزيد من التسلح والتمترس في مناطق النفوذ وتقوية سلطة السلاح.
من الواضح أن الجيش اللبناني استطاع نزع فتيل الأزمة في لبنان مرة أخرى، كما استطاع أن يجنّب البلاد مواجهات دموية خطيرة ومفتوحة على جميع الجبهات.
ملفات مفتوحة تسبب الأزمة
لا يمكن بحال من الأحوال فصل أي حادث أمني في لبنان عن سياق ظاهرة الملفات المفتوحة ذات المصير المجهول. ما يعانيه لبنان في بعض الأحيان هو مزيج من غياب نتائج العديد من التحقيقات المفتوحة وغياب الرقابة والمساءلة القانونية والشعبية.
مرّت ثلاث سنوات على حادثة انفجار بيروت، وعلى الرغم من أن أهالي الضحايا تحركوا نحو المطالبة بتحقيق العدالة والمحاسبة إلا أن مسار التحقيق معّطل نتيجة الخلافات السياسية. حتى الادعاءات بتسييس التحقيق في انفجار بيروت لم يتم التوصل إلى حل نهائي بشأنها، وعليه فقد أصبح الملف في عداد النسيان. هذا الملف يعتبر من أخطر التفجيرات التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية. كما أنّ حجم الخسائر البشرية مرتفع للغاية حيث تقدر بنحو 218 شخصاً وإصابة أكثر من 7 آلاف آخرين.
وأما إذا تحدثنا عن الخسائر الاقتصادية فهي تقدر بأكثر من 15 مليار دولار، هذا المبلغ الذي يعتبر أزمة حقيقية بالنسبة لبلاد تعاني من تدهور اقتصادي ونسب تضخم مرتفعة.
وعلى الطرف الآخر، لم تعرف نتائج التحقيق بالنسبة لحادثة الطيونة والتي راح ضحيتها ستة مواطنين. الوجه المشترك في هذه التحقيقات هو غياب الحقيقة وغياب عنصر المحاسبة وحاكمية القانون.
لبنان بلد الأزمات المستمرة
إن غياب التحقيقات الفعالة في الحوادث الأمنية التي عصفت بلبنان دفع إلى ما يعرف بـ"تأجيل المواجهة"، في كل مرة نجحت القوى السياسية في تجنيب لبنان العودة إلى الحرب الأهلية مرة أخرى، ولكن فيما يبدو واضحاً اليوم للجميع بأن ما يحدث هو عملية تأجيل مستمرة لهذه المواجهات والاحتقان موجود ويزداد مع غياب الحلول للأزمات السياسية والاقتصادية المستمرة.
يرى البعض من الفرقاء السياسيين أو كما يسمونهم في لبنان "بالمنظومة السياسية" بأن حياتهم السياسية تعتمد على التحقين الطائفي والدفع نحو التجييش والأمننة لكل أزمة تعصف في البلاد.
وعليه، فلا يمكن أبداً أن نفصل الأحداث الأمنية سواء في مخيم عين الحلوة، أو حادثة الشاحنة التابعة لحزب الله عن شغور مقعد رئيس الجمهورية، أو الفراغ القاتل في مصرف لبنان المركزي، أو حتى عجز حكومة تصريف الأعمال عن القيام بمهامها، فهذه الأحداث هي استمرار لهذا الوضع.
خذ المبادرة الفرنسية كمثال على الارتباط العضوي بين الأزمة السياسية والاقتصادية للبنان بالأحداث الأمنية هناك. ترفض بعض القوى والأحزاب السياسية المبادرة الفرنسية بالدعوة للحوار؛ وذلك لأن المعارضة فشلت في طرح شخصية توافقية لتشغل منصب رئيس الجمهورية. ويأتي ذلك لأن المعارضة ليست موحدة كما أنهم ليسوا متفقين كذلك على ما يسمونه "مواجهة حزب الله" سياسياً؛ ولذلك هناك ذبذبة في طرح الأسماء والمرشحين للرئاسة بين جهاد أزغور وجوزيف عون، وهناك مخاوف مستمرة من توافق محتمل بين التيار الوطني الحر وحزب الله على غرار ما سمّي سابقاً بالعهد.
غياب أدوات الحوار اللبنانية-اللبنانية يدفع نحو مزيج من العنف والاحتقان السياسي والتجييش الطائفي، وهذا ما انعكس بشكل واضح في أحداث الكحالة.
ختاماً، التعبئة الطائفية والاحتكام للغة السلاح والتصريحات النارية التي تصدر من السياسيين اللبنانيين هي مؤشرات خطيرة تدل بشكل أو بآخر على ميل البعض إلى الاحتكام إلى لغة السلاح والعودة إلى الحرب الأهلية.
ما يتجاهله هؤلاء جميعاً أنّ الوساطات المؤثرة في لبنان لا تملك زمام المبادرة وجل ما يمكن أن تفعله هو الدعوة للحوار، وعلى الجميع أن يبقى متيقظاً من الضوء الأخضر الخارجي للعودة إلى شبح الحرب الأهلية، هذه الحرب التي لن يسلم فيها أي مكوّن طائفي أو سياسي في لبنان، وستدخل لبنان في دوامة من العنف المستمر وأزمة اقتصادية لن يخرج منها سالماً لعقود. وأخيراً علينا التذكير بأن السيطرة على الأوضاع بشكل مؤقت ليست إطفاءً للنار تحت الرماد، وإنما هي تأجيل مؤقت لاشتعالها. الحوار تحت سقف الوطن وترجيح الوطنية على الطائفية، والمواطنة على التحزّب السياسي، هو الحل الوحيد والمفقود هذه الأيام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.