إضافة إلى الاستبداد، أعتقد أن من الأسباب المباشرة التي أدت إلى عزوف الناس عن ممارسة العمل السياسي (وخاصة الرساليون منهم)، وتخليهم عن المساهمة في الشأن العام، وزهدهم عن الانخراط في أشكاله المختلفة القضية المـُشْكَلة والملتَبِسَة التي يقف عندها الكثير حيارى، ألا وهي إمكانية الجمع بين الأخلاق والسياسة، أو بتعبير آخر إشكالية الجمع بين المبدأ والمصلحة!
شخصياً (ربما كغيري) أربكتني هذه القضية كثيراً، بحيث أدخلتني في مرحلة ما في حالة شك في مدى واقعية ما أحمله من أفكار وقناعات مبدئية وإمكانية تطبيقها في واقع الناس، وكانت حالة الريب نتاجاً لعدة أسباب مختلطة من قبيل:
1- الواقع ومفهومه المحرّف والمتوارث للسياسة، والذي ملخصه عبارة "السياسة نجاسة"، التي يرددها الناس بصيغ مختلفة.
2- اعتماد مصطلح "البوليتيك" كمفهوم سيء السمعة، بمعنى الاحتيال بالسفسطة ومغالطة الناس.
3- مما نسمع ونرى من ممارسات لا أخلاقية يعتمدها مُدَّعو السياسة (منتَّحلو الصفة).
4- مما عايشناه ولمسناه من انقلاب الناس على أعقابهم، وخيانتهم لرفقاء دربهم وحتى لمبادئهم التي عُرفوا بها متى نالوا بعض المغنم.
5- الظلم والفساد الذي نعاني منه يومياً باسم السياسة (البوليتيك).
6- التضليل الواسع الذي تعرّضنا له باسم تاريخنا السياسي (قديمه خاصة) والخلط المتعمّد بين ممارسات الناس ومرجعيتنا القيمية.
والمؤلم أن هذه الأسباب وغيرها تأثيرها السلبي لم يتوقف فقط عند تغييب وعي الناس بأهمية السياسة وتأثيرها الكبير والمباشر على حياتهم، بل زيفت تزييفاً بالغاً مفهومهم للشأن العام، وحرّفت تحريفاً سيئاً حدود اهتمامهم به، فانصرفوا عنه خوفاً من أن تلطخهم نجاسته، وأصبح من يتصدره مدان حتى تثبت براءته! والحقيقة، فحكم الإدانة ليس خاطئاً تماماً، لأن القشرة الظاهرة والمقدمة كطبقة سياسية (وهي كاذبة) في مجملها تمارس "البوليتيك" بلا ضوابط تحكمها أو ترشدها.
ومما أذكره أنني ناقشت بعضهم (بعدها منهم من أصبح وزيراً، ومنهم البرلماني، ومنهم من اشتُهر كسياسي) في هذا الموضوع بالذات وطرحته حينها وفق صيغة بـ4 أسئلة محتملة:
أ- هل نسعى من أجل المبدأ ونهمل المصلحة؟
ب- هل نسعى من أجل المصلحة ونهمل المبدأ؟
ت-هل نسعى من أجل المصلحة ولا نغفل المبدأ؟
ث- هل نسعى من أجل المبدأ ولا نَغفل المصلحة؟
ونحصل على نفس المعاني لو صيغت الاحتمالات باستعمال ثنائية "السياسة والأخلاق". وحتى نضبط مصطلحاتنا ولا تتشعب بنا المفاهيم أقصد بالحكم بالمبدئية (أو الأخلاقية) على منهج الممارسة السياسية المعتمد من قبل الأفراد أو الهيئات، وليس محاكمة هذه الهيئات أو هؤلاء الأفراد، فقناعتي حتى اليوم ألا أقف عند الأشخاص أو التنظيمات:
1- خيار "السعي من أجل المبدأ وإهمال المصلحة"
من الواضح أن هذا الطرح مثالي غير واقعي، ينحو بحامله نحو السذاجة ويعبر عن جهل عميق بطبيعة السياسة والقواعد التي تحكمها، وهو طرح نظري يلائم أكثر ربما عملية التنظير السياسي ويتوافق وحدود مهمة المنظر التي تنحصر عند نقطتين:
أولاً: التشبث بالمبدأ، ثانياً: إقناع الناس بإمكانية تحقيقه، لأنه يفكر ويتحرك عموماً في عالم التجريد ولا تعترضه إكراهات الواقع، وأصلاً المنظر ليس مضطراً لمناقشة احتمال التنازل أو التفاوض على مبادئه، فإذا انطلقنا من فكرة أن السياسة فن وتقوم على الاجتهاد، فإن هذا الطرح يُغفل عوامل "الزمان، المكان والإمكان.."، وهي العوامل المحددة لطبيعة وحدود الفتوى (القرار أو الرأي) السياسية المعتمدة.
2- الخيارين (ب وت)/وجهان لمعنى (أو مقصد) واحد تقريبا
أولاً- نسعى من أجل المصلحة ونهمل المبدأ: هذا الطرح يمثل قمة الانتهازية ويجسد الوجه القبيح للسياسة (وللأسف هي الصورة الشائعة لدى الناس) واشتُهرت باسم المكيافيلية، ويقوم هذا الطرح (الفلسفي في أصله) على نظرية "أن الغاية تبرر الوسيلة".. والغريب أن هذه الأطروحة يعشقها الظلمة من الحكام، وتمثل سراً من أسرار استمرار الاستبداد السياسي وتغوله..!
ثانياً- نسعى من أجل المصلحة ولا نغفل المبدأ: هذا يمثل النسخة المُطورة (المُحسّنة) للمكيافيلية، وجاءت محاولة تحسينها تحت ضغط النقد الكبير للعمل السياسي الذي عرفه الفكر الغربي، وتحول اسمها إلى نظرية "الأيدي القذرة"، والتي ملخصها أن "السياسي يحتاج إلى اقتراف الشر من أجل خدمة الخير" والحقيقة أن فشل الميكيافيلية بنسختيها الأصلية والمحسّنة كبير في التوفيق بين المبادئ والمصالح، ويمكن توضيح ذلك إعتماداً على الإشارات التالية:
– الشرور والمظالم الكبيرة التي ارتُكبت باسم الميكيافيلية.
– صلاحيات الحاكم اللامحدودة وخاصة ميزة تقدير وتعريف الشر والخير.
– عدم التمييز بين مصلحة الدولة ومصلحة الحاكم.
- النظرة العنصرية والدونية للآخر المختلف (تحيّزهم للفرد الغربي مثل تبرير القصف النووي للمدن اليابانية، أو تبريرهم لقتل وتشريد الشعب العراقي،..إلخ).
- المسّ بإنسانية العالم واستقرار البشر بالحرص على بناء علاقاته على القوة وقانون الغاب.
- تحريف التاريخ وشغل الناس بأخطاء المظلوم بدلاً من خطايا الظالم، ويشير لهذا المعنى تصريح أحد الفلاسفة اليهود الأمريكيين معلقاً على الغزو الأمريكي للعراق: "إنها حرب غير عادلة، ولكن يجب الانتصار فيها"!، وهو نفس المعنى الذي قاله أحد زعماء التنور في بلادنا بوصفه للانقلاب على الإرادة الشعبية: "إنه عمل مشروع، وإن كان غير شرعي!".
3- خيار"نسعى من أجل المبدأ ونحقق المصلحة"
أعتقد أن هذا الاحتمال هو الأقرب لقيمنا وثقافتنا من جهة، والأقرب إلى واقع وطبيعة البشر من جهة ثانية، فهو مزيج رائع بين مثالية المبادئ وواقعية المصالح، وهذه التوليفة لا يجسدها إلا ديننا، والذي أرى أنه قدّمها على صور ثلاث:
– كلف البشر بمهمة عمارة الأرض.
– وضع لذلك مجموعة قيم على شكل قواعد وتوجيهات ترشد هم.
– رَسَّم سنة "التدافع" كمنهج سعي ضامن لعدم اختلال النظام على الأرض: ﴿ولَوْلا دِفاعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ..﴾ -البقرة251-
4- الجمع بين السياسة والأخلاق ممكن
مما تفرد به الدين الحق طرحه لإمكانية "الجمع بين المبدأ والمصلحة" وجسدها عليه الصلاة والسلام في سيرته أثناء سعيه لإقامة مجتمع الحق والعدل (مثلاً محطة 'صلح الحديبية' نموذج فارق..)، مؤكداً على أن"التدافع" (الذي يمكن أن نحاجج به كل متردد عَلم وعزف..) هو الناموس الضابط لتعايش البشر فيما بينهم، ويمكن تعريفه بــ: "ذب الناس عن مصالحهم ومعتقداتهم دون أن ينتظروا معجزة إلهية تنصر أحدهم ليقينه أنه على الحق وفقط..".فالإمكانية والفضل يعود إلى مجموع القواعد والأسس التي تميز وتضبط قانون الأخلاق عندنا، والتي منها أنه:
– مزيج بين المثالية والواقعية مثالي في مصدره الإلهي في التقعيد والتنظير، وواقعي في تطبييقه وأخذه بعين الاعتبار لطبيعة البشر وتباين أهدافهم وحتى مصالحهم.
– قانون عام في إطراده لا يقبل الازدواجية (..لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) -شطر من حديث البخاري- في تطبيقه ولا التطفيف في أحكامه.
– مرن لم يَجْمُد عند مثالية حالمة غافلة عن قسوة وإكراهات الواقع، فسن مبدأ الترجيح وقبل فكرة أخف الضررين..إلخ متى تزاحمت المبادئ أو تضاربت المصالح.
– إنساني يضمن مصالح الناس في غاياته ومقاصده، بعيداً عن الانتهازية أو النفعية المتوحشة للأفراد والعصب على حساب مصالح الجماعة أو الأمة.
– صارم في موقفه من احترام العقود والمواثيق.
5- الممارس للسياسة: بخلاف المنظر نجد أن الممارس للسياسة (وهو المقصود الأساسي) دوره أصعب ومساره أشق، فهو يبدأ حيث يتوقف المنظر، ويحمل العبء الأكبر بسعيه لتحقيق ما أمكن من المبادئ والقيم النظرية في واقع الناس، ويحتاج في ذلك أن يكون:
– متسلحاً بخلفية فكرية صلبة.
– مدركاً لطبيعة الميدان الذي يتحرك فيه أو من خلاله.
– واعياً بعوامل القوة والتأثير وساعياً لكسبها.
– آخذاً بعين الاعتبار دور الزمن في التغيير.
ومن هذا المنظور الواقعي يتعين التمييز بين التنظير السياسي والممارسة السياسية، فإذا كان التنظير يتوقف عند رسم وبناء الحلم في قوالب نظرية مجردة لا مجال للتنازل عنها أو التفاوض حولها، فإن وظيفة الممارِس السياسي هي تحقيق ما يمكن تحقيقه من المبادئ والقيم في واقع الناس، ضمن معادلات الزمان والمكان والإمكان، وهو فن لا حدود للإبداع والعبقرية فيه.
ولذلك يمكن القول إن التنظير أسهل من الممارسة، والمعارضة أسهل من قيادة الدول والشعوب، والسياسي الذي نقصده هو الذي يفلح في التوفيق بين المبادئ والمصالح، فلا يفرط في أي منهما، فيكون بذلك مبدئياً وبراغماتياً في آن واحد، وتزداد مهمته صعوبة إن كان رجلاً رسالياً، فبالإضافة إلى ما ذكرنا تواجه سفينته صعوبات أربعة:
– واقع سياسي قاتم مع طول المدة تحول الاستبداد صفة ملازمة وثابثة فيه.
– محيط دولي وإقليمي فاعل ومعادي لكل إصلاح.
– طبقة سياسية متجاهلة لمصالح الأمة استمرأت الفساد والإفساد.
– معسكر مهلهل ومتفرق وفاقد للحس الاستراتيجي الواعي.
ولهذا يبقى حل الوضعية المشكلة "كيف يحقق الممارس الرسالي أهدافه؟ وكيف يتجاوز العقبات التي تواجهه في مساره؟"، والإجابة عن تساؤلاتها هو المهم والأهم!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.