أوراق الدومينو الإفريقية.. كيف أشعل اضطراب ليبيا جحيم الانقلابات في القارة؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/08/10 الساعة 11:51 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/08/10 الساعة 15:08 بتوقيت غرينتش
قادة الانقلاب العسكري في النيجر - رويترز

"تأثير الدومينو" هو اصطلاح يُستخدم عادةً في عالم السياسة والاقتصاد، وقد استُخدِمَ من قِبل الكثيرين لشرح التغييرات الجذرية التي تحدث في البلدان المجاورة في فترة زمنية قصيرة نسبياً، فاستُخدِمَ لشرح توسُّع الكتلة الشيوعية في جنوب شرق آسيا، واستُخدِمَ لشرح "الربيع العربي". وفي الآونة الأخيرة نتيجة سلسلة الانقلابات في منطقة الساحل الإفريقي، ربما سيُستخدم مجدداً لفهم المجريات الحالية هناك، ما يدفعنا لطرح أسئلة مهمة: ماذا كان أول حجر دومينو؟ ومن الذي دفعه للسقوط؟ هل يمكن أن تكون ليبيا هي الجواب؟

الساحل الإفريقي هي منطقة تغطي البلدان المتأثرة بمناخ الصحراء الكبرى، تمتد من السنغال في غرب إفريقيا إلى إريتريا شرقاً. ومع التاريخ الممتد لقرون، والثقافة المتنوعة، والموارد الاقتصادية الهائلة، ينظر الباحثون إلى المنطقة عموماً على أنها بوابة من شمال إفريقيا "العربية" إلى إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، لذلك عند محاولة فهم عدد من الانقلابات في دول مثل مالي في 2020 و2021، وغينيا 2021، وبوركينافاسو 2022، والنيجر في 28 يوليو من العام الجاري، من الضروري فهم كيف أثر عدم الاستقرار في ليبيا "ما بعد القذافي" على هذه البلدان. 

لكن من المهم أيضاً توخّي الحذر لعدم المبالغة في تبسيط الأحداث الدولية المعقدة للغاية، إذ سيكون من التهور والسطحية إلقاء اللوم ببساطة في "صعود الانقلابيين" في المنطقة، فقط على عدم الاستقرار في ليبيا. فيجب ألا ننسى أن الاستحواذ العسكري على نظامٍ مدني ليس ظاهرةً جديدة في هذه المنطقة، فلكل بلد انقلابه الخاص، حيث تتنوع الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكامنة التي تدفع دائماً إلى عمليات الاستيلاء على السلطة هناك. رغم ذلك من الضروري عدم التغاضي عن تأثير فراغ السلطة في ليبيا على المنطقة ككل، وهناك 3 قضايا مهمة جداً لتسليط الضوء على فترة ما بعد القذافي في ليبيا، كان لها تأثير على الدول التي شهدت انقلابات في المنطقة.

الإرهاب 

إنها حقيقة لا يمكن إنكارها، أن الإرهاب مثله مثل الجرائم المنظمة الأخرى، يزدهر في بيئة تكون فيها الدولة ضعيفة أو غير موجودة. وكانت فترة ما بعد القذافي بمثابة كابوس أمني في ليبيا، نتيجة عدم استقرار الحكومات، والصراعات على السلطة بين الحكومات غرباً وشرقاً. علاوة على ذلك، كان للحرب الأهلية الليبية الثانية (2014–2020) تأثير هائل على المنطقة. 

 بوكو حرام يعتقد أنها تتبع تنظيم داعش الموجود بليبيا - رويترز
 بوكو حرام يعتقد أنها تتبع تنظيم داعش الموجود بليبيا – رويترز

فخلال تزعزُع الاستقرار هناك استخدمت الجماعات الإرهابية، مثل القاعدة وداعش، ليبيا كـ"أرضٍ آمنة"، ووجدت القاعدة فيها فرصةً لتوسيع نفوذها في بلاد المغرب الإسلامي، فلوحظ نشاط كبير للحركات الجهادية في شمال إفريقيا حينَها، وتوسُّع لعملياتها بشكل أكبر في ليبيا. علاوة على ذلك، أنشأ تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بـ"داعش" فرعاً تابعاً له في ليبيا في عام 2014، والذي سيطر على مدينة سرت الساحلية الشمالية المهمة حتى عام 2016. ومن المهم أن نذكر أن الأنشطة الإرهابية في هذه البلدان قد انخفضت بشكل كبير مؤخراً، مع ذلك مازالت هذه الفروع توفر دعماً لوجيستياً مهماً للمنتمين لها في غرب إفريقيا. وقد أفادت تقارير بشكلٍ حاسم أن مقر قيادة القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي يقع في ليبيا. ونتيجة لانعدام الأمن الذي خلقته هذه الجماعات الإرهابية، نتيجة عدم كفاية ردود الحكومات المدنية على هذه التهديدات تمكَّن قادة الانقلاب في غرب إفريقيا من زيادة قدرات جيوشهم، ما أدى إلى توسيع نفوذهم وشرعنة استيلائهم على السلطة. 

تجارة الأسلحة

وصل الاتجار غير المشروع بالأسلحة في ليبيا وعبرَها إلى مستوى يُعتبر تهديداً أمنياً لمعظم دول المنطقة، وحظيت هذه القضية باهتمام عالمي، إذ مازالت تحاول منظمات مثل الأمم المتحدة والإنتربول بنشاط وضعَ حدٍّ لتهريب الأسلحة في المنطقة. وتوضح العديد من تقارير الأمم المتحدة مدى تعقيد الشبكات ومدى كارثية العواقب على استقرار المنطقة. فعلى سبيل المثال كان تمرد الطوارق في مالي، وهو تمرد عرقي في الجزء الشمالي من مالي، كامناً حتى أدى انعدام الأمن المتزايد في المنطقة إلى عودة التمرد. وهنا يجب الإشارة إلى أن الطرق وجميع المسائل اللوجيستية التي يستخدمها المتمردون لتأمين الأسلحة تمر عبر ليبيا.

علاوة على ذلك، أشار تقرير موسع كتبه معهد الدراسات الأمنية إلى أن طرق التجارة التي أغرقت النيجر ومالي وبوركينافاسو بالأسلحة من ليبيا متباينة ومتنوعة، وهذا يشير إلى أن هناك المزيد من المدن والقرى والطرق، أصبحت أخطر من أي وقت مضى، ما يؤثر على إمكانية تحقيق الاستقرار والسلام الدائم في منطقة الساحل، وهو ما يسهّل بدوره في عملية نزع الشرعية عن الحكومات المدنية عن طريق الانقلابات هناك. 

تنامي المشاعر المعادية للغرب بسبب التدخل الغربي

تمثلت إحدى استراتيجيات تبرير هذه الانقلابات في تعبئة المشاعر المعادية للغرب، خاصةً المعادية لفرنسا، فقد اعتمد كل زعيم انقلاب في تلك المنطقة على الخطاب القائل إن فرنسا والغرب يسعيان للحفاظ على مصالحهما الاستعمارية الجديدة في بلدانهم، وإن هذه الانقلابات ستكون وسيلة لوضع حد لهذه المصالح، بغض النظر عما إذا كانت هذه الحجج صحيحة أم لا، فإن من الأمور المهمة أن تدرك قوة المشاعر التي تحرك الشعوب هناك. فقد شكّل التاريخ الاستعماري الخطاب الوطني في هذه البلدان، إلا أن التدخل العسكري الفرنسي المباشر من خلال عمليات مثل عملية برخان قد أشعل الخطاب المعادي لفرنسا بصورةٍ لا تُصدَّق.

الطريق للنيجر ينطلق من ليبيا.. كيف نفهم انقلابات غرب إفريقيا؟ - رويترز
مظاهرة مؤيدة للانقلاب العسكري في النيجر- رويترز

ولتوضيح ذلك بإيجاز، كانت عملية برخان عملية فرنسية بدأت في يناير/كانون الثاني 2013 كهجوم ضد الجماعات الإرهابية المتطرفة في المنطقة، وانتهت في عام 2022. ويُنظَر إليها على نطاقٍ واسع على أنها "فاشلة" من جانب العديد من المحللين الغربيين، حيث إن الجماعات الإرهابية لم تحافظ على نشاطها فحسب، بل أدّى فشل العملية أيضاً في كبح جماح الإرهاب إلى قدر متزايد من الإحباط لدى الجمهور، الذي استخدمه قادة الانقلاب لمصلحتهم. ولفهم هذا الإحباط سنعود مرةً أخرى إلى ليبيا بعد تدخل الناتو، حين بدأت مصداقية عمليات حفظ السلام الأجنبية متعددة الجنسيات في المنطقة تتهاوى. فغدت الآثار المدمرة للهجوم الليبي، واستمرار رفض الاتحاد الإفريقي له، من يومها، تؤكد الرواية القائلة بأن أي تدخل عسكري من قِبل الغرب يجري من أجل حماية مصالح الغرب. ولم تتأخر "فرنسا" ومزاعم حربها على الإرهاب في إفريقيا عن تغذية وتأكيد هذه الرواية عن طريق فشلها الواضح، لذلك كان من الأسهل على الجنرالات المسؤولين عن الانقلاب تكوين سردية تحشد شعوب القارة. 

إن الانقلاب في منطقة الساحل منذ 2018، وصولاً إلى النسخة الأخيرة في 2023 بالانقلاب العسكري في النيجر، يجلب إلى الأذهان التساؤل حول ما إذا كانت هناك عوامل وأنماط مشتركة بين هذه الانقلابات، وما هو الدور الذي تلعبه ليبيا فيها. 

فأعتقد أن فترة ما بعد القذافي، بسبب انعدام الأمن وعدم الاستقرار في البلاد، كان لها تأثير غير مباشر لانعدام الأمن وعدم الاستقرار في غرب إفريقيا. بالإضافة إلى ذلك، فشل قوات الناتو في توفير السلام والازدهار لفترة ما بعد القذافي، إلى جانب فشل الجيش الفرنسي في مهمته، أدى إلى تأجيج المشاعر المعادية للغرب هناك، ما أسهم في خلق بيئة تُرسي أسس الانقلاب في تلك المنطقة.

مرةً أخرى، من المهم أن نتذكر أنه لا يمكن ببساطة تجاهل الديناميكيات الداخلية والخارجية لكل دولة على حدة، والجغرافيا السياسية الخاصة بها في المنطقة. مع ذلك، يمكن القول إن أي تحليل حول منطقة غرب إفريقيا دون التطرق إلى ليبيا هو ببساطة تحليل غير كامل، فإفريقيا مترابطة تاريخياً وسياسياً وتجارياً. فببساطة بدون توفير الأمن والازدهار لشعب ليبيا، يكاد يكون من المستحيل فعل الشيء نفسه لشعب النيجر وبوركينافاسو ومالي وغينيا والسنغال وتشاد، وحتى جنوب القارة. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد باقي
باحث تركي مختص في الشؤون الافريقية
تحميل المزيد