ها هي الدنمارك قد عادت مرة أخرى إلى المسرح الدولي بكل وقاحة وبرفقتها ساسة السويد السذج يتعذرون بحرية التعبير، بعدما أحرق اللاجئ العراقي سلوان موميكا نسخة من القرآن الكريم. وها هما وزيرا خارجية الدنمارك والسويد يناقشان قضية إحراق المصحف، ويحاولان وضع قانون يحد من التظاهرات التي يتم فيها إحراق القرآن.
القيم العلمانية والثقافة الأوروبية ترسخ حرية التعبير. كما أن مشروع التنوير يُقوي حرية التعبير، والحداثة ذاتها هي ما أوجدت المجتمع المدني القائم على فكرة الحرية منذ إشراقة عصر الأنوار، لذا فإن مجتمع الحداثة وما بعد الحداثة والمجتمع الصناعي وما بعد الصناعي، جميع هذه المجتمعات يدافع أفرادها عن حرية التعبير التي أصبحت معتقداً راسخاً من معتقدات العلمانية لا يمكن التفاوض حوله ولا يمكن تقييده بأي شكل.
ونحن في هذا السياق نحاول تحليل حرية التعبير وتفكيكها ومعرفة دلالتها. ونحن أيضاً سنضع مقابل حرية التعبير حرية النقد لكي يتسنى لنا محاسبة القيم العلمانية ونقد تلك الحرية المزعومة حول التعبير، لا لقيمة في ذاتها ولكن بهدف كشف دلالاتها وتناقضها وبالتالي تفكيك أسطورة تلك الحرية المزعومة في الثقافة العلمانية الغربية.
وليس الفرد الأوروبي وحده متقيداً بهذا المفهوم، حتى المؤسسات ذاتها تنطلق من هذه القيم الحداثية، وتقدم نفسها بأنها المدافعة عن هذه القيم والمتحدثة أيضاً باسم العلمانية وتفرض نفسها بأنها مسؤولة عن فرض هذه القيم لذا لا توجد قوة يمكن إيقاف هذه المؤسسات التي يحق لها باسم حرية التعبير أن تسخر من معتقدات الآخرين بحجة هذا المبدأ الذي أطلقته ولم تقيده بأي شكل من الأشكال حتى أصبح بلا منطق عقلاني.
في السابق كان اليمين المتطرف الأوروبي أكثر مؤشر دالٍّ على ظاهرة الإسلاموفوبيا، وهذا ما يفسّر حماقات اليمين المتطرف تجاه المعتقدات الإسلامية والسخرية منها، بينما في هذه الأيام هناك أفكار اليمين المتطرف وحماقات اليمين المتطرف، ولكن الأشخاص الذين يرتكبون مثل هذه الحماقات والعداءات تجاه الإسلام ليسوا من خلفيات أوروبية غربية بل من بيئات شرقية وأعراق عربية، ولكنهم يتخذون موقفاً معادياً من الإسلام ومن الثقافة العربية، وهم بهذا المعنى يمثلون روح ما بعد الكولونيالية ويؤكدون حقيقة الاستلاب والتدجين الذي مارسه عليهم المُستعمِر، لذا يحتقرون هويتهم بينما يقدرون هوية الآخر، وهم بهذا المعنى فاقدو الهوية ومقاطعون لجذور هوياتهم.
الإساءة الغربية باسم الحرية
باسم حرية التعبير والقيم العلمانية وشعارات الحداثة الأوروبية رسمت جريدة "جيللاندز بوستان" الدنماركية الرسوم الكاريكاتيرية عن النبي الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم)، وبذات النهج أعادت مجلة "شارلي إيبدو" الساخرة تلك الرسوم مرة أخرى، ليس لقيمة فنية بل من أجل فرض القيم العلمانية والثقافة الأوروبية على الآخرين متعذرين باسم حرية التعبير، وفي ذات الاتجاه سبقتهم اللاجئة الصومالية آيانا حريصي علي.
ومن خلال فيلمها القصير تحدثت نيابة عن المرأة وباسم حرية التعبير قامت بالسخرية من آيات القرآن ومن الذات الإلهية وقدمت صورة مشوهة عن الشريعة الإسلامية من خلال أربع نساء ظهرن في فيلمها القصير، الذي يتحدث عن قضية خضوع المرأة للرجل في الدين الإسلامي من خلال منظورها الخاص، ولم تحترم آيانا قدسية الصلاة ولم تعطِ قيمة للأحكام الشرعية. وباسم حرية التعبير سخرت الكاتبة من الحجاب وأخرجت المرأة المسلمة بهذا الشكل السيئ، كما أهانت القرآن الكريم ورسمته على جسم إحدى الشخصيات في الفيلم، مثل هذه الأساليب تجسّد الموقف الغربي من الإسلام والمسلمين. وتوضح أيضاً تطرف المرتدين عن الإسلام وعداءهم له أكثر من اليمين!
إن كانت حرية التعبير كما تم تسويقها داخل المؤسسات الغربية على أنها محاسبة الخالق، وارتداء ملابس شفافة وكتابة الآيات القرآنية على جسم النساء والسخرية من الأحكام الفقهية، فإن هذه الحرية ليست حرية بقدر ما هي وقاحة في التعبير على معتقدات الآخرين بحجة حرية التعبير، وقد أصبحت الإساءة والسخرية حقاً محفوظاً باسم حرية التعبير.
وإن كانت حرية التعبير لا تجد معناها إلا عندما تمسّ المقدسات الإسلامية ويتم التطاول على الخالق سبحانه وتعالى، ويتم الاستخفاف بالجانب النبوي بحجة حرية التعبير والقيم العلمانية، فإن ذلك ليس من الحرية في شيء بقدر ما هو جوهر التخلف والرجعية التي تتجذر بقلب القيم العلمانية الغربية وتظهر في سلوكيات المتطرفين من اليمين الأوروبي ومن يحملون أيديولوجيتهم من اللاجئين المتطرفين ذوي الأصول الشرقية العربية.
حرية التعبير في سياق العلمانية
منذ فجر التاريخ والعالم الغربي مرعوب من الإسلام. وترهبهم المعتقدات الإسلامية وتزعج قلوبهم سماحة الدين الإسلامي والخصائص الثقافية والاجتماعية التي قامت عليها ركائز الدين الإسلامي وبها جاء المشروع الحضاري الإسلامي لهذا العالم كله، تلك هي نقطة الإشكال، ولا يمكن تفسير جميع التجاوزات على الدين دون التأمل فيها.
القيم العلمانية الغربية لها جذور مسيحية. كما أن الغرب المسيحي يقابله الشرق المسلم، وبهذا فإن القيم المسيحية ولو كانت علمانية هي مصبوغة بالمسيحية ومختلطة فيها، كما أن الشرق المسلم والعالم أجمع بلغته الرسالة المحمدية وتلك الرسالة من سماحتها استطاعت جذب الفرد؛ لأنها تملك مشروعاً حضارياً وإنسانياً يأخذ مكانه في قلب الروح البشرية؛ لذا استجابت له نفوس البشر بكل سهولة. وبهذا انتشر الإسلام في العالم كله.
الغرب المسيحي تزعجه كلمة التوحيد ويعكّر صفوه الدين الإسلامي. وبغض النظر عن الأبعاد السياسية والتاريخية فإن الروح الغربية ولو تمثلت واتصلت بفلسفة الحداثة وتغيرت وتأثر أفرادها بفلاسفة الأنوار تبقى النزعة المسيحية مسيطرة على وجدانهم ويبقى الإسلام هو عدوهم الأول والهدف الأول الذي يستهدف الفرد الغربي وتستهدفه الدولة الغربية، ويحاولون تبرير ذلك تارة باسم حرية التعبيرة وتارة أخرى باسم القيم العلمانية، وجميع تلك الشعارات يحاولون بها إخفاء حقيقة موقفهم من الإسلام.
فيلم الخضوع الذي كتبت نصّه آيا حصري مؤشر على حماقة هؤلاء المهاجرين من الأصول الشرقية عندما وضعوا الآخر مكانة فوق مكانته وسمحوا له بأن يكون معيارهم وجعلوا من قيمه وثقافته مكانة أرفع من قيمهم وثقافتهم وهويتهم، لذا نشاهدهم يحاولون التحدث باسم اليمين المتطرف ويسيرون في ذات النهج ساخرين من الأحكام الشرعية ومستنقصين من الذات الإلهية والمقدسات الإسلامية ويفعلون ذلك كله باسم الحرية، تلك الحرية التي اعتدوا بها على مقدسات الآخرين لكي يقدمون بديلاً وهو حرية التعبير التي ورثها الإنسان الغربي منذ عصر الأنوار وبهذا يتم الازدراء بقيم الآخرين.
القيم العلمانية الغربية فارغة؛ والسبب هو الأفكار الطوباوية لعصر الأنوار الأوروبي التي عززت المركزية حول العقل الأوروبي والإنسان الأوروبي، وبعبارة أدق الحضارة الأوروبية، كما أن الحداثة مشروع لم يكتمل بعد لأن القيم التي أوجدتها الحداثة هي قيم فارغة من المعنى؛ لذا لم تجد مكانها في الروح الإنسانية.
كيفما نظرت في العلمانية لن تجدها خارجة عن هذه التناقضات، وكيفما تناولت حرية التعبير في الثقافة الأوروبية؛ لن تجدها إلا مجموعة متراكمة من التناقضات، وبهذا المعنى فإن حرية التعبير في حقيقتها تعني مهاجمة فكرة المقدس لأن العلمانية لا تعطي أهمية لما هو خارج الموضوع ولا تبحث فيما هو ميتافيقي، إذ أصل الإشكال قائم حول فكرة المقدس ذاتها، وذلك هو التناقض الأخلاقي والفجوة داخل العلمانية الأوروبية.
إن كانت العلمانية قد أوجدت حرية التعبير فإن المنظومة الغربية قد كشفت الغطاء عن مفهوم تلك الحرية، وإن كانت الحداثة قد عززت مركزية الإنسان الأوروبي فإن حماقات الإنسان الأوروبي التي ارتكبها باسم الحرية قد كشفت الغطاء عن ماهية تلك الحرية التي باسمها يتم الاعتداء على مقدسات الآخرين وبهذا ينكشف الغطاء عن مشروع حداثي رجعي، وعن قيم علمانية غربية متناقضة وغير أخلاقية ولا تحترم فكرة مقدسات الآخرين وبالتالي لا يمكن طرحها كمشروع إنساني حضاري وحسبك!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.