الخرطوم كماشة الموت وجحيم الطريق.. رحلة نجاة صحفي من القتل في السودان

عربي بوست
تم النشر: 2023/08/08 الساعة 13:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/08/09 الساعة 10:26 بتوقيت غرينتش

لم أكن متردداً أبداً في خوض غمار رحلة الموت هذه، لولا أنه كان خياري الوحيد ذلك اليوم، فقد كنت متوقعاً كل تلك العقبات التي قد تواجهني في الطريق أنا وإخوتي إلى خارج العاصمة الخرطوم، التي باتت بين نيرانَي قوات الجيش والدعم السريع شبه العسكرية في الحرب المندلعة بينهما منذ الخامس عشر من أبريل الماضي وحتى يومنا هذا، وقضت على الأخضر واليابس في الخرطوم وولايات أخرى كدارفور، التي نالت حظ الأسد من هذا الدمار والموت، لا سيما والانتهاكات الجسيمة التي تمارسها الأخيرة ضد المواطنين العُزل في مساكنهم وأعمالهم الخاصة والعامة، خاصة مؤسسات الدولة التي تعرّضت للتدمير الكامل والممنهج خلال هذه المدة من عمر الحرب اللعينة، مخلفة الأضرار الكبيرة للمواطن قبل أي طرف آخر.

فالانتهاكات لا تُحصى ولا تُعدّ من قبل طرفي هذا النزاع الخاسر والمهلك، ففي هذه المساحة أتطرق لحجم المخاطر والتحديات التي واجهتني، ويمكن أن تواجه أي شخص آخر ينوي مغادرة الخرطوم والنجاة من جحيم معاركها في هذه الظروف الأمنية الصعبة المعقدة.

فعندما خططنا لمغادرتها كنا على علمٍ بتحديات الطريق الأمنية، لكن لم يكن أمامنا أي خيارٌ آخر أو بديل غيره، إذ إن البقاء في الخرطوم والحرب في أوجها قبل عيد الأضحى المبارك، وبعده بمثابة الهم الأكبر والمهلكة لأسرتي وأهلي ولغيري، الذين تعرّضت منازلهم للنهب والسرقة تحت تهديد السلاح، مثلنا مثل مئات الأسر التي واجهت ذات المصير، ما اضطرهم للمغادرة حفاظاً على أرواحهم، فالبقاء انتحار، ولا عبارة أصح من هذا الوصف، كذلك السفر.

لكن السفر بعيداً من الخرطوم خيرٌ من البقاء فوق جحيم حرب الجنرالين اللعينة فيها.

فالمخاطر التي كنا نواجهها هناك، على سبيل المثال لا الحصر، هي توقف الإمداد المائي لأكثر من شهرين منذ اندلاع الحرب عن العديد من الأحياء السكنية في الخرطوم وبحري المنسية وأم درمان الصابرة على جراحها، إضافة إلى توقف شبكات الاتصالات والإغلاق التام للأسواق الشعبية التي حوّلوها لميادين للمعارك والاشتباكات الدامية بينهم، ونهب المتاجر وفقد الأمان تماماً.

دخان يتصاعد في العاصمة السودانية الخرطوم نتيجة الاشتباكات العسكرية

كل تلك العوامل كانت كفيلة بأن يتخذ الواحد قرار السفر خارجها بأي طريقةٍ، ولو على ظهر عربة شحن (لوري) مع الارتفاع الجنوني في تذاكر الباصات السفرية للولايات قبيل عيد الأضحي المبارك، إذ بلغت تذكرة الفرد الواحد إلى الفاشر في دارفور والنهود في كردفان ما يعادل 150 – 300 دولار أمريكي، فمع هذه الزيادات الكبيرة وجدنا السبيل الوحيد أمامنا هو السفر إلى الولايات على هذه السيارات الشاحنة ولا مناص؛ توكلنا على الله ووصلنا المحطة في سوق ليبيا ووجدنا الكثير من الناس ينتظرون مثلنا حتى يتم شحن السيارة الـ"ZS" للبضائع، من ثم نركب نحن فوق السطح العلوي للسيارة على كل تلك البضائع التجارية وجوالات البصل التي عليها مشمع برتقالي كبير.

في تلك الأثناء أخبرني أحد المسافرين أننا سنسافر غرباً؛ حيث وجهتنا عبر طريق الأربعين الترابي القديم الذي هُجر لأكثر من 15 عاماً أو يزيد، عقب الانتهاء من الطريق الأسفلت المؤدي إلى ولايات كردفان ودارفور. ذكرني هذا بأنه لا بد لنا من اتخاذ الحيطة والحذر وحذف كل شيء من الهاتف يتعلق بالجيش أو ِالدعم السريع، وتخبئة هواتفنا في أماكن بعيدة عن أمتعتنا لأن الطرفين يفحصان هواتف المسافرين، ويذلونهم ويستجوبونهم، ويمكن أن يقتلوهم بسبب صورة أو مراسلات خاصة في سجل الهاتف.

رتبنا لكل تلك المخاطر وغادرنا مدينة أم درمان غربي العاصمة الخرطوم مع مغيب الشمس، بعد أن صلينا المغرب والعشاء مع إخوتي وبقية المسافرين وتوكلنا على الله؛ تحركت بنا السيارة تتجه جنوباً ثم غرباً وإذا بأربعة "مواتر" أو دراجات نارية تلاحقنا بسرعة البرق على جنبات سيارتنا إلى أن وصلنا إحدى البوابات الغربية لمدينة أم درمان التي حتى قبيل عيد الاضحى تسيطر عليها قوات الدعم السريع بنسبة ٩٥%؜ تقريباً، وهذا ما يعني جلياً أن البوابة التي سنصل إليها تابعة لهم بكل تأكيد ونحن نشاهد أرتالاً من العربات (الكباسي) المسروقة وعليها حراسات مسلحة من الدعم السريع يملأون جنبات الطريق بكميات كبيرة.

قمت بوضع هواتفي فوق السيارة، وفي مكان ما بين البضائع تحت ذلك المشمع البرتقالي؛ تحسباً لجرجرة الإجراءات التي قد تكون نهايتها طلقة في الرأس عند منتصف الطريق. وقبل أن نصل البوابة بقليل توقفت سيارتنا، وتحدث إلينا أصحاب الدراجات النارية "تصحبكم السلامة" ثم ذهبت دراجتان وبقي برفقتنا اثنتان أخريان، فهمت أن هذا الوداع قد يكون وداع خير أو شر، ولكني اكتشفت شيئاً ما بعد أن وصلنا لإحدى هذه البوابات التي لم نجد فيها أحداً، ومررنا عليها مرور الكرام. سِرنا في الليل لما يُقارب 2 كيلو متر مربع، وفجأة ظهرت علينا عربة بوكس دبل كاب تسير في الظلام من دون لوحات أو إنارة، توقفت سيارتنا وسألوا السائق "مودي الجيش ده وين"؟ أي إلي أين تسير بهؤلاء الذين يتبعون الجيش؟ 

رد عليه السائق: "ديل مواطنين مسافرين، ولا علاقة لهم بالجيش".

تحدث إليهم أصحاب المواتر أن هؤلاء أهلنا نُريد أن نودعهم، رد عليه أحدهم: "ماف كلام ذي ده، فسكت سائق الموتر.. "قالوا لسائق سيارتنا بالصوت العالي قلنا ليك "نزل الجيش ده تحت، وإلا نملاكم رصاص".

على الفور قاموا بتعمير أسلحتهم تجاهنا، وتم إنزالنا على الأرض ووجهوا إلينا فوهات البنادق، ونحن في صف واحدٍ كالمصلين تماماً، ثم طلبوا هوياتنا، 

أحدهم أشار إليّ بعد أن طلب هُويتي قال لي: أنت الصحفي؟ 

قلت له: نعم أنا الصحفي. قال لي اخرج إلينا أنت بتاع استخبارات يا زول، 

قلت له والسلاح فوق رأسي: صحفي صحفي لا علاقة لي بالجيش ولا بالعمل العسكري. قال لي: أين هواتفك؟ قلت له: ليس لديّ هاتف غير هذا النوكيا الصغير، قال لي تلفونك الكبير وين؟

قلت له: نُهب مني في سوق ليبيا قبل أن أصل المحطة.

فوراً لم يقنعه حديثي فقام بتعمير السلاح وفتح الأمان، ثم قاموا بإبعادي عن بقية المسافرين واستجوابي بعيداً عن مسامعهم؛ لمحاولة بث الرعب فيهم، ثم قادوني إلى حيث يقتلون الناس، ربما في ذلك المكان المنخفض وعلى الأرض حشائش شائكة أسيرُ عليها حافي القدمين رافعاً يداي فوق رأسي كالأسير تماماً، فقط لأن هويتي صحفي، قال لي بلهجة أهلنا العرب في غرب السودان "نطُخك هنا هسي ده يا زول" أي أنا مستعد أن أقتلك في هذا المكان إذا لم تعترف بأنك تعمل لصالح استخبارات الجيش.

قلت له وأنا أغمض عيناي "والله يا جنابو.. أنا أحلف لك بالله لو تديني طلقة هنا ده أنا مواطن صحفي، ولا علاقة لي بالجيش، ولا أعرف البرهان الذي تقول من بعيد أو قريب، ولم يسبق لي أن وقفت أمامه طوالي عمري"، لم يتردد ذلك الصبي من محاولة تصفيتي بالسلاح، إلا أن أحدهم قال له خلاص خليه. ثم تحدث معي الآخر: "يا زول يا زول، وين تلفونك الكبير؟".

قلت له مرة أخرى: اتنهب مني في الخرطوم. قال لي: الموت كم؟ قلت له مرة واحدة، أشار إلى أنهم سيقتلونني هنا إذا لم نُعطهم معلوماتٍ عن الجيش وندلهم على هواتفي، وفي آخر المطاف سمحوا لي بأن أذهب إلى حيث يقف بقية المسافرين معي، ثم صعدوا إلى السيارة وقاموا بتفتيشها ونهبوا الهواتف وأموال المسافرين.

ثم تركونا نستعد لركوب السيارة مرة أخرى، وذهبوا في الظلام بسرعة البرق، بعد أن كتبت لي النجاة من موت محقق. 

وواصلنا رحلتنا الحزينة هذه إلى أن وصلنا منطقة أخرى في ضواحي كردفان ووجدنا آخرين أيضاً من أفراد "الدعم السريع"، أوقفوا سيارتنا بتهديد أسلحتهم، ثم جاءوا إلينا من مكانٍ بعيد عن الطريق الترابي الذي نسير فيه، فرغم وعورته وصعوبة خروج السيارة منه مع الأرض الممطرة والرمال الرطبة التي يسهل الوحل فيها، لم يرحمونا، بل طلبوا من السائق جر سيارتهم البعيدة بوكس مودل 2020، تعطلت في الطريق. قام السائق بصعوبة بإخراج سيارتنا الكبيرة وربط عليها سيارتهم المتعطلة من خلفها لجرها، ثم واصلنا رحلتنا إلى أن وصلنا إلى منطقة تُسمى "زغاوة".

طلب أصحاب هذه السيارة المتعطلة أن نتركها لهم في هذه المنطقة، وقد وجدنا أن أرتالاً من تلك السيارات المنهوبة المحملة بـ"البضائع والوقود والمواتر الجديدة"، ففي هذه المنطقة بمعيتهم ميكانيكية يحملون أسلحةً رشاشة ربما مستأجرين يعملون لصالحهم لتصليح مثل هذه السيارات المتعطلة إلى أن يصلوا معهم "دارفور"، خاصة مدينة الضعين، الولاية الحديثة التي أضحت في ليلة وضحاها تضج شوارعها بزحمة هذه السيارات الخرطومية المنهوبة حتى فتحت المعارض لما أسموها معارض بوكو الخرطوم. 

– المهم تواصلنا سردنا ليلتها، وبتنا في منطقة (جبرة) الشيخ بشمال كردفان وواصلنا السفر في الصباح الباكر، ولم نتوقف مرة أخرى مع وعورة الطريق والقرى الصغيرة الكردفانية، إلى أن وصلنا منطقة أخرى بتنا فيها بعد غياب شمس اليوم التالي، وسافرنا منها ووصلنا منطقة (الهور) التي تبعد عنها عشرات الكيلومترات.

لم نتوقف ومررنا، فإذا بسيارة (ATOZ) تسير بسرعة خاطفة عليها 3 أشخاص مدنيين، وقد تخطت سيارتهم المسرعة عربتنا في الطريق الترابي ذي الاتجاه الواحد والأشجار الشوكية التي تعانق المسافرين معنا في الأعلى.

سرنا حوالي 5 كيلومترات تقريباً، وتفاجأنا بذات السيارة تقطع الطريق وتقف عكسه؛ ليخرج منها شخصان ملثمان مسلحان، نزلا من بابٍ واحد ثم أسرع أحدهما ووقف في منتصف الطريق ووجه إلينا سلاحاً رشاشاً وقد بدأ بإطلاق الرصاص علينا، والآخر بالقرب من السيارة الصغيرة يقف بسلاح من نوع جيم 3 قاموا بإطلاق وابل من الرصاص تجاهنا بصورة كبيرة وعشوائية.

لم ينزل ثالثهم من السيارة حتى توقفت سيارتنا وقاما بالتحدث إلينا بقول الذي يقف عند منتصف الطريق "كُلك تحت يا زول" وقد انزوينا جانباً وأخفضنا رؤوسنا إلى الأسفل من شدة الرصاص الذي كان يصوَّب علينا بصورة مباشرة.

عندها أوقف سائقنا السيارة ونزلنا جميعاً بسرعة على الأرض، وعددنا يقارب الأربعين راكباً، رفعنا أيدينا للأعلى والكل يردد:

حسبي الله ونعم الوكيل فيهم، نزلنا على الأرض، فتحدثوا إلينا بأن نكون بعيدين عن سيارتنا، وفي مكان واحد.

بعدها نزل سائق الـ ATOZ يحمل سلاحاً قناصاً من طراز M-16 وكلاشنكوف أيضاً، وحذّرنا من أن يدقق أحد في ملامحهم، ثم طرحونا على الأرض جميعاً ومن حولنا سلاسل جبلية سوداء شامخة، كأنه آخر يوم في حياتنا.

توكلنا على الله وانتظرنا الموت، وصعد اثنان فوق عربتنا، نهبا كل ما نملك، ولم يتركا لنا شيئاً حتى ملابسنا التي في حقائبنا وحقائب النساء اللائي كن معنا في هذه السفرية الصعبة.

 ثم قالا: أين السواق؟ ذهب إليهما السائق قالا له: "الدعامة ديل موديهم وين؟ قال لهم هؤلاء مواطنون ما دعامة.

وهذا ما يفسر أنهم يرابطون على قطع هذا الطريق لنهب العربات المسروقة من الخرطوم، وكذلك سيارات الشحن الكبيرة، هكذا عاد نشاط النهب المسلح من جديد وبقوة أكبر، وأصبح المواطن في كل مكان في السودان هو الضحية للأقوياء مع كل السلاح المنتشر والمسلحين الذين في كل مكان.

النهابان طالبا سائق سيارتنا بإعطائهما نقوداً مقابل تركنا، لكنه قال لهما والله إن هؤلاء المسافرين أجبرتهم الظروف على المغادرة حتى أن بعضهم لم يفطر منذ أمس، غير أني تكفلت بإفطارهم على حسابي الخاص في الطريق، وسأل إلى أين تتجه سيارتكم؟ قال له إلى "أم كدادة" ؟ فإذا به بدأ بهمهمة لزميله بعد أن انتهيا للتو من نهب السيارة وتفتيش امتعتنا تماماً حتى حقائب النساء لم تسلم.

نحن في مذلة من أمرنا، نتابعُ الحوار بين السائق والناهب الذي أصرّ بعد ذلك على جمع ما تبقى في جيوبنا لسلامتنا، ولم يكن أمامنا خيار آخر، فأخرجنا له كل ما نملك من نقود في جيوبنا، وقال له السائق: هذا كل ما نملك "تاني والله حق العشاء ما عندنا".

من خلال هذا الحوار اتضح لي أن هؤلاء بهذه الأسلحة يقصدون نهب العربات المنهوبة من قبل الدعم السريع، الذين يعملون على تفويجها بهذا الطريق الترابي إلي دارفور، لكنهم لا يترددون في نهب سيارات المواطنين العاديين أيضاً، سواء كانت مخصصة للسفر أو للشحن.

لمحت من حديث أحدهم مع السائق عندما سأله العربية من أم كدادة ؟ نعم أم كدادة المنطقة الأقرب إلى هذه المنطقة التي تعرضنا فيها للنهب للمرة الثانية بعد أن نهبتنا عناصر الدعم في بوابات أم درمان.

لمحت أنهم تراجعوا عن فكرة أخذ السيارة معهم وتركنا في العراء، لأن أهل هذه المناطق يتعارفون، وانتهى الحوار بينهما وذهب الناهبون بعد أن مكثنا على الأرض على بطوننا لحوالي ساعة ونصف، فاخذوا كل شيء، وقالوا لنا قوموا إلى العربية، وإلا نأخذها ونترككم في مكانكم هذا.

صعدنا إلى السيارة مغبرين مثقلين بالتعب، وكانت الساعة تشير للعاشرة إلا الربع، ذهبوا بسيارتهم بسرعة البرق وتواروا عن الأنظار عند منطقة "الهور" في كردفان.

أخيراً وصلنا أنا وإخوتي إلى منطقة الدم جمد في ولاية غرب كردفان؛ حيث وجهتنا النهائية بالقرب من هذه المنطقة المُطلة على شارع الزلط الرئيسي المتجه غرباً إلى ولايات دارفور. لم تتوقف مجالس الناس في هذه القرى عن حكاوي النهب المُسلح والبوابات العشوائية التي نصبتها بعض القبائل في تلك المناطق المحاذية للزلط على الطريق الرئيسي بصورة في منتهى الفوضوية. هؤلاء المواطنون فرضوا أنفسهم بالدفع مقابل العبور، وعملوا مئات البوابات على هذا الطريق المحفوفة بالمخاطر.

عربة تنقل ممتلكات السودانيين الذي فروا من الخرطوم/ رويترز

فمن هذه المنطقة إلى أم كدادة وحدها عشرات البوابات ومن أم كدادة إلى الفاشر أكثر من 9 بوابات عشوائية، وعند مداخل مدينة الفاشر في ولاية شمال دارفور توجد 6 بوابات لقوات الدعم السريع المدججين بالأسلحة الثقيلة عند مدخل المدينة من الناحية السوقية يمنعون العبور إلا بمقابل دفع الأموال إليهم، وهكذا بتنا نعيش عالماً من الفوضى والنهب.

وفي تلك المنطقة التي كانت مقصدنا توالت الأحداث كل يوم من اشتباكات بين الدعم السريع المفوجين بالعربات المنهوبة من الخرطوم وقطاع الطرق الذين هم أبناء بعض القبائل في تلك المناطق الكردفانية النائية. ما تنتج عنها مواجهات دامية مستمرة حصيلتها عشرات القتلى والجرحى من الطرفين.

كل هذه العوامل كانت ولا تزال كفيلة بإيقاف حركة السفر بين العاصمة والولايات وصعوبته مع كل تلك المخاطر التي ذكرناها آنفاً مثل البوابات العشوائية الكثيرة التي تغلق الطريق، ويطلبون فيها من سائقي السيارات دفع أموال ضخمة للعبور، وفي حال عجزوا عن الدفع أو حاول أحدهم تخطي العبور يطلقون عليه الرصاص مباشرةً أو نهبها إذا دعا الأمر.

كذلك الاشتباكات بين قطاع الطرق والدعم السريع ظلت حديث الناس هناك، الأمر الذي جعل السفر مستحيلاً على المواطنين العاديين، وحتى والتنقل من منطقة إلى أخرى، ناهيك عن السفر من العاصمة إلى الولايات والعكس.

لقد انتهت الخرطوم بالنهب والقتل للمواطن، سواء بسلاح الدعم السريع أو بضربات طيران الجيش العشوائية على الأحياء السكنية والأسواق الشعبية.

هذه الحرب دفع ثمنها المواطن الذي لا ناقة له فيها ولا جمل، وكل أمنياتنا هي أن تتوقف الحرب ويعود للناس لمنازلهم وأعمالهم.

إنها حرب الجنرالين التي حصدت أرواحنا ولا تزال، ولا يأبه قادتها في العمل على توقيفها، بل الكل يريد أن ينتصر.. لكن متى؟

إن مشوار رحلة نجاتي أنا وإخوتي من جحيم العاصمة الخرطوم ونيران عصابات النهب المسلح من (قطّاع الطُرق) وغيرهم، لم يُكتب للكثير من السودانيين الذين انتهت رحلتهم بالموت على فوهة تلك البنادق الملعونة، وهؤلاء لم يكونوا إلا مواطنين بسطاء كل همّهم المغادرة والخروج من الخرطوم بأي سبيل.

لقد بات السفر في السودان مخاطرة وانتحاراً، لكن البقاء أيضاً جحيم، ولقد أصبح هذا المصير المجهول يعيشه السودانيون في كل مكان من بلادنا الحبيبة، وكل أمنيتهم أن ينتهي هذا الكابوس.

ختاماً أقول: يجب أن يتحمل قادة هذه "الحرب" المسؤولية الكاملة تجاه كل هذا الهلاك والدمار الذي أذاقوه لشعبنا السوداني، ولا يبالون في استمرارها مقابل أن يقضي أحدهم على الآخر، وتكون له النتائج صفرية بحسم المعركة لصالحه.

تخيل عزيزي القارئ كيف نعيش هذا التوهان والموت المجاني على قارعة الطريق وتوقف كل شيء في البلاد التي ما ذُكرت إلا وذكر الخراب وتعداد آلاف القتلى والجرحى والنازحين الفارين من جحيم ويلاتها.
إنها حربُ الخاسرين الكُبرى، لا منتصر فيها ولا ناصر، والعالم يتفرج وينتظر نهاية بلد اسمه السودان، وعاصمة اسمها الخرطوم وإقليم اسمه دارفور، فالمواطنون لا حول لهم ولا قوة غير أن نناشد ونطالب بوقف الحرب بأقرب ما يمكن، والواجب الذي يمليه علينا الضمير أن نحكّم صوت العقل، فهذه بلادنا لا خلاص لنا بتركها في هذا السُّوء، إن نِداءنا الأول والأخير:

أوقفوا هذه الحرب.. أوقفوا الحرب في السودان.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

معمر إبراهيم
محرر ومحلل سياسي
تحميل المزيد