كيف تحوّلت “دعاية” لمندوب توصيل إلى “فضيحة” في مصر.. هذا ما يحدث كل مرة

عربي بوست
تم النشر: 2023/08/08 الساعة 10:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/08/08 الساعة 10:30 بتوقيت غرينتش

كنت ضحية من قبل لحملات الاغتيال الجماعية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حدث هذا حين كتبتُ تقريراً قبل عشر سنوات تقريباً حول ملك مصري قديم يُدعى جد كا رع إسيسي، وعن وجود تشابه في مهنته وظروف عمله مع وزير الدفاع وقتها عبد الفتاح السيسي.

لم أسلم من السبِّ بالوالدين، والسخرية مما كتبت، رغم إسناده لمصادر علمية، وكان من بين مصادري وقتَها الأثري الراحل عبد الحليم نور الدين، ووصل الأمر إلى تأليف كوميكس حول الصحفية التي تمسح الجوخ للسلطة من أجل مكسب ما.

وقتها لم تؤلمني السخرية الجماعية على قسوتها، وإنما آلمني سخرية بعض الأصدقاء، يومها تعلمت ألّا أسخر أبداً من موقف، وألّا أشارك في "تريند"، مهما بدا مغرياً، ومستفزاً، فما يجري ليس مجرد "خفة دم"، أو "تعارض وجهات نظر"، وإنما "اغتيال معنوي" لأصحاب القصة، في قصتي الخاصة أنصفني الله باكتشافات تخص الملك المذكور، والذي لم يكن ثمة مناسبة للحديث عنه قبل الاكتشافات سوى موضوعي، وقتها ظللت أتساءل طويلاً: لماذا لا ينتقد الناس ما لا يعجبهم بأدب؟! وأين المبدأ في الإساءة واستباحة الناس، لمجرد أنهم صاروا موضوعاً لـ"الترند"؟.

دعاية إلى "مندوب توصيل"

"من فترة طلبت حاجة أونلاين، حاجة تخصّ لبس البيت، بس الحاجة دي ممكن تتلبس خارج البيت وتكون غير شرعية"، بهذه الكلمات بدأت رانيا السنوسي منشوراً لها عبر موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، مرفقة بصورة لشاب مع رقم هاتفه، للوهلة الأولى بدا المنشور وكأنه تحذير، لكن مواصلة القراءة كشفت الكثير حول الهدف من المنشور.

بدت كاتبة المنشور راضية جداً عن مندوب التوصيل، الذي قام بتوصيل طلبها إليها، حيث أكملت سرد القصة قائلة:

"بعد يومين لقيت المندوب بيكلمني، وبيسألني على المكان بالضبط، ولمّا قعدت أشرح له ولقى الشرح طويل لقيته بيقصّر في الكلام، وقال لي ممكن حضرتك تشرحي دا واتساب كتابةً؟

قلت له: تمام، تحت أمر حضرتك.

بعدها لقيت البنوتة اللي أنا طلبت منها الحاجة بتكلمني، ودار الحوار كالتالي:

– آسفة والله مش تطفل، بس هوّ حضرتك هتلبسي الحاجة دي خارج البيت؟

– لا يا حبيبي، ما تقلقيش ومفيش أي تطفل أبداً.

– آسفة جدّاً والله، بس المندوب لمّا شاف محتوى الشنطة قِلِق، لأنه مش بيوصّل أي حاجة غير شرعية.

وكمان سألني: هل أنا عرّفتك الديفوه اللي في المنتج ولّا لأ، علشان الأمانة، فعرّفته إني مبلغاكِ بيه، وإنك عارفة إن المنتج فيه ديفوه، وإني منزّلة في سعره عشان كدا".

عند هذه النقطة تحوّل منشور الدعاية للشاب، والذي يفترض أنه جاء ليعدد مزاياه في الأمانة والدماثة والذوق، إلى منشور مضاد، ضد الشاب الذي انهال عليه هجوم حاد، برغم توضيح الشابة في بقية المنشور هدفها الرئيسي مما كتبت، حيث قالت:

"بصراحة اندهشت جدّاً من تصرّف المندوب وحِرصه على عدم الوقوع في أي مخالفة، واتّقائه لله سبحانه وتعالى في شغله، رغم إن أي مندوب أسهل كلمة عنده يقول لك: أنا مجرد مندوب بيوصّل الأوردر، ماليش دعوة بالأوردر نفسه، إلا مَن رحِم ربّي! علشان كدا قررت أنزّل رقم المندوب دا واسمه، وأعمل له إعلان هنا- من بعد ما خلّيت زوجي استأذنه طبعاً- وأتمنى أي حد شغال في نطاق القاهرة الكبرى وضواحيها إنه يتعامل معاه ويشجّعه".

آلاف التعليقات والمشاركات حظي بها المنشور، الذي انقسم الناس حوله بين مؤيد بقوة، ومعارض بشدة، فئة ترى المندوب كصاحبة المنشور دمث الخلق، عفيف النفس، خلوقاً، وفريق آخر انتقد قيامه بالنظر إلى أمانة يفترض أن يقوم بتسليهما بحياد، دون النظر إلى محتواها، كأحد أشكال الأمانة، صحيح أن كاتبة المنشور أوضحت في ملحوظة أخيرة: "المنتج كان محطوط في شنطة هدايا مفتوحة وظاهر جدّاً.. علشان كدا هو شافه وشاف الديفوه اللي فيه من بعد ما استأذن اللي بَاعتَه الأوردر.. يعني هو ما تعدّاش على خصوصيات بأمانة"، إلا أن الموقف بالكامل فتح الباب لكثير من النقاش حول حدود "الأمانة" و"الخصوصية" في العقل الجمعي بمصر.

الكثير من السخرية انطلقت تندّراً على الموقف، لكن الأمر بدا مريراً لآخرين ممن بدا لهم الأمر غريباً حقاً، إذ كيف يحق لمندوب توصيل الاطلاع على محتوى ما يقوم بتوصيله، بل ومناقشة العميل في طريقة الاستخدام، مع تحول عملية توصيل بسيطة إلى اختبار "أخلاق" واستجواب، في غير محله.

على الجانب الآخر بدت فكرة تمسك المرء بفكرة، أو مبدأ، مغرية حقاً، لفتني ذلك التعليق لواحدة قالت: "أتعامل معه منذ فترة كبيرة، وقد سألني قبل أن نبدأ العمل عن طبيعة ما أقوم ببيعه، وفي إحدى المرات طلبت منه توصيل وجبات إطعام رفض أن يتقاضى أي مليم".

لعل اللافت حقاً في الأمر كان "الانقسام" العنيف، فما بين معجبين راحوا يرشحون المندوب عبر التعليقات، ويثنون على أخلاقه، ويشهدون له بمواقف عديدة طيبة، ومهاجمين راحو يتهمونه بخيانة الأمانة، تحول الموقف إلى اختبار عنيف للقناعات، هل من حق المندوب أن يطّلع على محتوى الشحنات؟ هل من حق شخص أجنبي أن يسأل امرأة حول استخداماتها للأغراض التي تشتريها، حفاظاً على قناعاته ومبادئه الشخصية؟ هل كان ما فعله المندوب أمراً أخلاقياً كما رأته صاحبة المنشور، أم أنه فعل غير أخلاقي كما رآه المهاجمون، في كل الأحوال اختلفت الإجابات بعنف، وبقي لكل فريق وجهة نظره التي أدمى بها وجه الفريق الآخر، بكل ما يمكن من تلميحات وإيحاءات وإساءات لا يحتملها الموقف، ولا تستحقها القصة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

رحاب لؤي
كاتبة صحفية متخصصة في الفن
كاتبة صحفية، عملتُ في العديد من الصُحف والمواقع الإلكترونية، أحب الرسم والقراءة والأداء الصوتي
تحميل المزيد